الثلاثاء، 31 مارس 2009

دوائر العولمة :
هل للعولمة جانبٌ واحد، هو الجانب السلبي الذي ينعكس في الآثار السيئة والمضار والمخاطر التي تهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، أم أن لها جوانب متعددة، منها السلبي، ومنها الإيجابي؟.
نعتقد أن هذا السؤال يصحُّ أن نتخذه مدخلاً إلى فهمٍ أعمق للعولمة، على المستويات كافة، وبصورة خاصة على المستوى الثقافي، وإلى استيعابٍ أشمل لمضامينها.
والحق أن ما من نظامٍ أو منهج، أو فكرةٍ سياسيةٍ واجتماعية تتصل بحياة البشر، إلا ولها وجوه متعددة، على اعتبار أن الفكر الإنساني هو ذو منزع مزدوج من الخير والشر، وهما العنصران الكامنان في الضمير الإنساني. وعلى هذا الأساس، فإننا نرى أن للعولمة دوائر تتحرك فيها، وهي بذلك ليست دائرةً واحدةً منحصرة في حدود معلومة. وللإرادة الإنسانية تأثيرٌ في تحديد هذه الدوائر ورسم معالمها وضبط مساراتها.
وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة، فإن التركيز على الجانب الإقتصادي والسياسي للعولمة، جعلها تغيب في أحايين كثيرة، عن الأذهان، لدرجة أنّ معظم المفكرين في العالم، ومنهم طائفة من المفكرين في العالم الإسلامي، يغفلون عن الجوانب الأخرى للعولمة، وينزعون نحو إدانة العولمة جملةً وتفصيلاً، الأمر الذي تضيع معه عناصر كثيرة من الحقيقة، بحيث يقع الخلط بين الحق والباطل، وبين الواقع والمثال.
إنَّ رفضنا العولمة وتنديدنا المتكرّر عاليَ الصوت، بآثارها السلبية، وتركيزنا على نقض أسسها ودحض ادعاءات المروّجين لها، كل ذلك لن يؤثر في طبيعة الوضع الناجم عن هيمنة النظام العالمي الذي يفرض العولمة على العالم، ولن يكون لموقفنا هذا، أي تأثير إيجابي على العولمة، من حيث هي فكرة ومنهج وأسلوب ونظام وتيار عارم جارف يكتسح الحواجز ويدكّ المواقع.
ولذلك، فإننا ندعو إلى أن نلتمس للعولمة جوانبَ إيجابية، ونعمل ما وسعنا العمل، لتوظيف إيجابيات العولمة فيما ينفعنا في حياتنا العامة.
إن المسألة في حاجة شديدة إلى ضبطٍ منهجيٍّ نتحكَّم به في العولمة بأعلى ما نستطيع من قدرات. وبذلك نسلك طريقنا إلى الاِستفادة من العولمة على النحو الذي يدفعنا إلى الإسهام في الحضارة الإنسانية الجديدة، من موقعنا الثقافي المتميّز وبخلفيتنا التارخية وبهويتنا الحضارية المتفردة.
إن هذا الموقف الإيجابيّ إزاء العولمة يتطلب منا أن ننخرط في المعترك الثقافي العالمي، وأن ندفع بمجتمعاتنا في اتجاه التفاعل المتحرّك مع المتغيّرات المتسارعة، حتى نفهم ما يجري حولنا، ونستوعب التحوّلات الكبرى التي تعيشها الإنسانية في هذا العصر، ولئلا نبقى قاعدينَ نندب حظوظنا، وعاجزينَ نتفرّج على العالم يتطور ويتقدم.
إن الهزيمة النفسية أمام العولمة تأتي من اعتبار ظاهرة العولمة حتميةً. وهذا أمرٌ مبالغٌ فيه، وهو لا يعبّر عن حقيقة هذه الظاهرة، لأن اعتبار ظاهرة العولمة حتميةً، قد لا يكون في الحقيقة أكثر من اعتراف المرء بأنه لم يعد لديه طاقة باقية للمقاومة، أي أنه قد نفد جهده، وأصبح مستعداً للتسليم. فإذا كان هذا هو اختيار بعضهم، فهو ليس مُلزماً لغيرهم، ومن الظلم على أي حال، أن يوصف بالحتمية اختيارٌ لا يعكس إلا نفاد الطاقة أو استعجال المكافأة. وهو موقفٌ ظالم، لأنه يحمّل عدة أجيال قادمة عبءَ فشل جيلٍ بعينه، فاعتبار ظاهرة ما حتميةً، يتوقف أيضاً على المدى الزمني الذي يأخذه المرء في اعتباره ((5
إن حقائق الأشياء تؤكد أن العولمة لا تمثّل خطراً كاسحاً ومدمراً، إلا على الشعوب والأمم التي تفتقر إلى ثوابت ثقافية، أما تلك التي تمتلك رصيداً ثقافياً وحضارياً غنياً، فإنها قادرة على الاِحتفاظ بخصوصياتها والنجاة من مخاطر العولمة وتجاوز سلبياتها.
ومن الأساليب التي يستخدمها مهندسو العولمة ومروّجوها، تنميةُ الشعور بالهزيمة والاِستعداد للاستسلام أمام ما يريدون فرضه على الشعوب والحكومات، من خلال إضعاف الإحساس بالذاتية، وبالتميّز، وبالاِعتزاز بكل ما يمتُّ إلى التراث الحضاري والرصيد الثقافي، بصلة.
ومن هنا نجد أن الرفض العالمي للعولمة يَتَنَامى باطّراد، وإن كان لا يملك أن يؤثر في صدّ هجمات العولمة على أمم الأرض وشعوبها، على الأقل في المدى المنظور، لأننا نعتقد جازمين، أن كل نظام ظالم للإنسان، أو عقيدة قاهرة للفطرة، أو منهج يفرض الهيمنة على الإرادة الإنسانية ويتحكّم في أشواق النفس البشرية الروحية وتطلعاتها الثقافية وطموحها الحضاري، هو إلى انهيار وزوال، لأنه يصادم سنة اللَّه في خلقه، ويَتَنَافَى مع فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها.
وأمام عنفوان العولمة وضغوطها القوية، لا ينبغي أن نستسلم ونذعن لإرادة الأقوياء المتحكمين في أَزِمَّة الأمور في ظل النظام العالمي الجديد. ولا يتعارض هذا الموقف المطلوب منا اتخاذُه، مع ما ذكرناه آنفاً.
إن الخطأ المنهجي الذي يقع فيه طائفة من المفكرين من العالم العربي الإسلامي الذين بحثوا ظاهرة العولمة، يكمن أساساً في أنهم بدلاً من أن يرسموا الخريطة الجديدة التي يتعيّن على المجتمعات العربية الإسلامية فهمها والعمل في حدودها، ويُضيئوا أمام أصحاب القرار والنخب المثقفة والمفكرة، المصابيح لتسلّط على الحقائق كما هي، لا كما نتوهمها أو نتخيلها، راحوا يُسهبون إسهاباً مفرطاً، في تعداد مساوئ العولمة وأضرارها والمخاطر التي تتسبَّب فيها، فكانوا بصنيعهم هذا، يقومون بشقٍّ من الواجب، ولا ينهضون بمسؤوليتهم كاملة.
إن أحداً منا لا يجادل في أن ثمة شواهد كثيرة تشير إلى أن قوى العولمة المعاصرة ليست سوى امتداد عضوي وإيديولوجي لقوى الاِستغلال والسيطرة والاِحتواء وتعمل على تكريس التبعية من جانب الدول الأقل نموّاً لتلك الأكثر نموّاً، وإن كانت آليات تكريس التبعية قد اختلفت في ظل العولمة، من الاِستعمار التقليدي، إلى اللجوء لسياسة الضغط الاِقتصادي (6). فهذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها. ولكن هل تقف مسؤوليتنا عند هذا الحد، وهو الجهر بهذه الحقيقة، أم أن المسؤولية تمتدُّ وتتشعب وتَتَوَاصَلُ؟.
إن المنهج في بحث ظاهرة العولمة، هو إلى الوصف التحليلي والنقد السياسي من منطلق إيديولوجي، أقرب منه إلى المعالجة العلمية المستنيرة المبرأة من كل هوى سياسيٍّ أو إيديولوجيّ. ولذلك كان من السلبيات التي وقع فيها معظم من عالج قضية العولمة من خلال هذا المنهج، العزوفُ عن الموضوعية المجردة تحت تأثير الفكر الشمولي الذي كان يسود في عهود القُطْبَين الأكبرين في زمن الحرب الباردة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق