السبت، 16 مايو 2009

العولمة(1)
ماذا تعني هذه الكلمة؟ وما هي أهداف العولمة، وما هو الموقف الذي ينبغي للدول العربية والإسلامية اتخاذه منها؟
العولمةُ تعني ببساطة تعميمَ النمطِ الواحد الثقافي والاقتصادي (ثم السياسي) حكماً، ومحاولة بسطه على كل دول العالم.
وهي في مجمل هذا المعنى ليست حديثة عهد بل تعود إلى زمن قديم حيث كانت القوى الناشئة تطمح إلى التمدد والتوسع ما أسعفتها أو أغرتها بذلك قوتُها ، فقد تمدد اليونانيون بقيادة الاسكندر الكبير يصحبه فلاسفة وحكماء ، إلى أقاصي المعمورة التي كانت معروفة في زمانه ، وأنشأ ، وهو يفتح المدن ، مؤسساتٍ مختلفةٍ ومكاتبَ عامةٍ ، منها مكتبةُ الاسكندرية الشهيرة . وكذلك فعل الرومان ، فعبروا البحار واستعمروا الدول التي وراءها ونقلوا بعض خصائص حضارتهم إليها ومنها فنهم المعماري الذي لا زالت بعض آثاره قائمة إلى اليوم كقلعة بعلبك في لبنان . وتوسع العرب المسلمون شرقاً وغرباً وأنشأوا حضارة شامخة في ظل رسالة الإسلام لا زالت بعض معالمها ماثلة إلى اليوم في إسبانيا وغيرها تبهر السياح .
وباسم الخلافة بسط العثمانيون نفوذَهم على محيطٍ واسع من أقطار الأرض . وهذا ما حاولته فرنسا بقيادة جنرالها نابليون عبر سلسلة من المعارك الدامية الشهيرة أوصلته بعضُها إلى مصر حيث نقل إليها أول مطبعة ولبس مع أهلها العمة وحاول التأثير في مجتمعها ، وصولاً إلى النصف الأول من القرن الماضي حيث تقاسمت العالمَ قوى الاستعمارِ الغربي وأنشأت فوق دوله ، ومنها دول العالمِ العربي والإسلامي ممالكَ وامبراطوريات – إحداها لا تغيب عن أطرافها الشمس – وعملت جاهدةً ، إلى جانب استلاب خيراتها ، على غزوها عقيدياً وثقافياً واجتماعياً .
والعولمةُ الحديثة التي يبشر بها الغرب اليوم بقيادة الولايات المتحدة ، حتى قيل أن العولمة هي (الأمركة) ، بما توافر لها من تكنولوجيا مذهلة وفضائيات صيّرت العالم قرية واحدة هي – في الحقيقة – ليست سوى حالة متطورة لتلك العولمة الممتدة في التاريخ .
وهي ذات وجهين يكمل أحدهما الآخر : عولمة ثقافية ، وعولمة اقتصادية ينقلان – تبعاً – إلى كل بلد حلاّ فيه ، عولمةَ السياسة ..
والعولمة الثقافية تعني تصدير المفاهيم والأسس التي تبتني عليها حياة الأمم ، كالحرية ، والديمقراطية، والسلام ، والأمن ، والسلوك الاجتماعي ، إلى بقية بلدان العالم بالتفسير والرؤية والقناعة الغربية ، وهنا تكمن أولى مخاطرِ العولمةِ ومفاسدِها . فالأمم والشعوب قد تختلف ، وربما اختلافاً كبيراً ، في قناعاتها وتفسيرها لهذه المفاهيم وذلك تبعاً لاختلاف حضاراتها وثقافاتها التي تكونت عبر التاريخ من العقائد والتراث والبيئة والعادات والآداب الاجتماعية لكلٍّ منها .
فما تعتبره الثقافة الغربية من صميم الحرية الشخصية كحق المرأة في الإجهاض الذي أقرته الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة / تموز عام 1999 م.، تعتبره الشريعة الإسلامية وكذلك المسيحية جريمة وتجنياً لأنه يحرم الجنين هبةَ الحياة التي وهبها له الخالق ..
والقانون الغربي الذي يحرِّرُ الأبناءَ في الأسرة من مسائلةِ الآباء إلى حدِّ تخويلهم إيداعَ آبائهم السجن لمجرد تعنيفٍ أو لطمةٍ غاضبةٍ أقدم عليها الأب مثلاً ، ٍتعتبره الشريعة الإسلامية قانوناً عاقاً ومخلاً بالآداب .
وكعقوبة الإعدام التي تحضرها دول غربية مؤثرةً حياةَ الجاني ، وتقرُّها ، بشروطها الصارمة طبعاً ، الشريعةُ الإسلاميةُ مؤثرةً أمن المجتمع ، ناهيك عن ما يمس الأخلاق والقيم بشكل فاضح كإباحة العري على الشواطئ ، والترخيص لبيوت بيع الهوى ، وتشريع الشذوذ الجنسي ، واعتباره زواجاً يحترمه القانون بل وحتى المؤسسة الدينية في بعض البلدان الغربية كبريطانيا وألمانيا ، (ونسجل هنا باحترام إدانة البابا مثل هذا الزواج الذي يندى لمجرد ذكره الجبين) .
وعلى هذا فإن العولمة الثقافية الغربية تعني حكماً العمل على ضرب وإلغاء أو في – اقل تقدير تمييع – ثقافات الشعوب الأخرى ، وهو في واقعه نوع من أنواع العنف والتجديف ، والإرهاب الفكري .
وقد لقي من أجل ذلك ممانعة وانتقاداً شديداً حتى من بعض الدول الغربية نفسها كفرنسا : مرةً على لسان وزير ثقافتها في عهد الرئيس ميتران جاك لانغ . وأخيراً في مجلس الشيوخ الفرنسي على لسان وزير خارجيتها الحالي دومينيك دوفيلبان الذي قال : (يجب الأخذ بعين الاعتبار الإحساس بالهيمنة الثقافية التي يمارسها العالم الغربي من خلال نهضة العولمة. ألا يعطي الغرب بذلك الشعور بالرغبة في فرض نمط حياة واحد في كل مكان معرِّضاً بذلك الثقافاتِ والهويات للخطر) وصرح في كلامه أيضاً: (علينا أن نحرص، دون أن تتوارى الحداثة ، بألا نجعلها تبدو كمنافس للتقاليد والديانات) جريدة اللواء – 2/7/2003.
ومع قراءة متأملة للعولمة الثقافية نجد خطاً منها يعمل بشكل مباشر للترويج للعولمة الاقتصادية عبر تكوين وتنشيط الذهنية الاستهلاكية لدى مواطني مملكة العولمة وإقناعهم بوسائل الثقافة الحديثة على اختلافها ، منها ثقافة الفضائيات وجاذبية الدعاية للسلع والمنتجات بأن الحياة ليست سوى متع متواصلة: الأكثر سعادة فيها هو الأكثر قدرة على اغتنام الفرص والعبّ من ألوان اللذائذ الحسية ما يُفعِّل ويزيد في إنتاج الشركات وبالتالي في أرباحها ، وهو بيت القصيد ، فَمَثَلُ المواطن في مملكة العولمة كمثل طفل فاغرٍ فاه لا يملّ الرضاعةَ كما يشبهه (أريك فروم) في كتابه (الهروب من الحرية) .
وأما العولمة الاقتصادية فقد سخّرت الولايات المتحدة ، - حاضنةُ العدد الأكبر من الشركات الرأسمالية في العالم – سخرت لتسويقها وتحويلها واقعاً طموحاً على الأرض (كل) ثقلها السياسي وتأثيرَها المباشر على (كلٍّ) من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (هيئة الرقابة على البنك الدولي) ومنظمة التجارة العالمية ملبسةً مشروعها – بإعلامٍ فائقِ القدرات – مسوحاً حضاريةً وإنسانية جذبت بعض النخب الثقافية في أماكن مختلفة من العالم كصادق العظم الذي دعا في كتابه المشترك مع حسن الحنفي (ما العولمة) إلى مماشاةِ المشروعِ العولمي ككل بعد أن أفاض في التحذير منه متخيلاً أن المماشاة من شأنها أن تخلق وسطية ثقافية تلتقي عندها كل الثقافات المتباينة . غير أن نظرةً سريعة في ملف العولمة تزيّف هذا الإعلام وتكشف عن أن تلك المسوح إنما تخفي داخلها وحشاً ضارياً ليس إلا .
فمنطلقُ العولمة كفكرة ، ما كان أصلاً بدوافعَ إنسانيةٍ وحضارية ، وإنما لعوامل مختلفة راحت بعد الحرب العالمية الثانية تتبلور وتقف في وجه شركات رأس المال كازدياد الاهتمام البيئي لدى المجتمعات الغربية الذي دفع بها إلى الضغط باستمرار على حكوماتها لتتخذ إجراءات صارمة بحق الشركات والمصانع التي باتت سبباً رئيسياً في تلويث البيئة وتهديد الأمن الصحي في العواصم والمدن .
وارتفاعِ وتيرة المطالبة بزيادة الأجور والضمان الصحي الاجتماعي للعمال بتأثير من الفكر البروليتاري والاشتراكي الذي قادته النقابات العمالية . ودخولِ منتجات رخيصة متدنيةِ الأسعار إلى الأسواق التجارية لاقت رواجاً واسعاً كالمنتجات الصينية والكورية . الأمر الذي أدى مع الوقت إلى تقلص مستمر في أرباح الشركات واضطر بعضها إلى تغيير جهتها الصناعية أو حتى التوقف عن العمل .. فرأت على أثر ذلك كله في فكرة العولمة والزحف صوب الجنوب سيما بلدان العالم الثالث حيث تتوافر المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة ، وسيلةً للخلاص من هذه الضغوط وطريقاً يفتح لها باب الثراء الفاحش .
وكما أن منطلقَ هذا المشروع العولمي لم يكن منطلقاً إنسانياً فإنك لا تجد في آليته العملية أيَّةَ مسحة إنسانية وإنما تجد هذه الآلية تعمل بحس وصولي ونفعي بحت . فالشروط التي اعتمدتها المنظمة التجارية – دينمو المشروع – لقبول دولةٍ ما في عضويتها ، تُلزِم الدولةَ العضوَ بعدم دعمها لمنتجاتها الوطنية وبتخفيض رسومها الجمركية على البضائع المستوردة وعلى أجور الشحن وأصل تكلفته ، ضمن ما يسمى بعمليات التبادل الحر ، ما يمنح هذه الشركات امتيازاتٍ وتسهيلاتٍ إضافيةً يصعب معها بل ويستحيل على الشركات الوطنية أن تنافسها ما سيضطرها إلى التوقف في نهاية المطاف وتسريح عمالها وإلقاء عبء إضافيٍّ على الدولة .
وستجد الدولة العضو نفسها مع الأيام وأمام التلويح بعصا العقوبات التي استنّتها منظمة التجارة بحق المتخلف عن سداد الديون ، ستجد نفسها مضطرة إما إلى فرض ضرائب وأسعار جديدة ، أو إلى تخفيض الإنفاق على المشاريع والخدمات الوطنية أو إليهما معاً كما هو الحاصل اليوم في لبنان (الذي وقع على معاهدة المنظمة التجارية في التسعينات) ، فها هي الضريبة تكاد تصاحب المواطن كما يصاحبه ظله بدءا من ورقة المختار وختماً بالتـ ، ف ، A، مروراً بما لا يخطر من هذه الضرائب على بال . وأما تخفيض الإنفاق على المشاريع فهو باد للعيان في حياة المواطنين كالتقنين الصارم في الكهرباء الذي يشهده لبنان بين الفينة والأخرى ، وإهمال النفايات التي باتت جبالاً في بعض كورنيشات النزهة والاستراحة ، وجمّلت بالألوان الزاهية وعطور المخلفات ، ودخان الحرائق طرق الكثير من مدن وبلدات جنوبنا الحبيب .
إن مشروع العولمة الاقتصادي لن يكون يوماً طوقَ نجاة وخشبةَ خلاصٍ للدول الفقيرة فضلاً عن أن يكون طريقاً إلى التطور والرخاء كما يمنّيها به إعلامُه ، فلغته ليست سوى لغة الحساب والأرقام . واهدافه ليست سوى الكسب وتضخيم الأرباح . وكل مؤسساته وشركات رأس المال فيه لا تمتلك قلباً ومشاعر وإنما تمتلك أنياباً ومخالب . مبدؤُها في التعاطي على الدوام إنتاجُ أجود سلعة ، بأكبر كمية وأرخص تكلفة .
هذه على سبيل المثال شركة الحذاء الرياضي المعروف (نايك) تدفع للاعب كرة السلة الشهير (مايكل جوردن) ملايين الدولارات لمجرد لبسه وترويجه لحذائها في حين أنها تدفع للولد الأندونيسي الذي تستخدمه لصناعة هذا الحذاء 12 سنتاً فقط في الساعة . وهي حين تجد كلفة العامل في بلد آخر غير أندونيسيا أرخصَ منه فيها فسوف لن تتردد في الرحيل عنها . وهكذا يتنقل المصنع من بلد لآخر تبعاً لبوصلة السنت والدولار لا للّفتة الإنسانية التي توهم الشركات الدول الفقيرة وشعوبها أنها توليها إياها .
ومن المفيد هنا أن نذكر أن مشروع العولمة قد أفضى وهو لا زال في بدايته إلى حصر 80 % من الموارد العالمية بأيدي خمس سكان العالم فقط وهم من أبناء الدول الصناعية علماً بأنهم ليسوا بمستوى معيشي واحد بطبيعة الحال، بل هناك منهم عاطلون عن العمل يبلغ عددهم في الولايات المتحدة على سبيل المثال زهاء عشرة ملايين عاطل .
وأن 358 شخصاً من كبار رجال الأعمال في العالم معظمهم من الدول الصناعية الكبرى وبالأخص الولايات المتحدة تساوي ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاث ماية مليون شخص من فقراء العالم أي أزيد من نصف سكانه .
وكما يقول برنار كاسين من (لومند دبلوماتيك) ! : (إن العولمة لا تقلص الفوارق الاجتماعية بل على العكس تضاعفها وتزيد منها سواء بين الأمم أو داخل كل حيز قومي على حده . ويعتبر أن الديمقراطية هي أحد ضحايا العولمة لما تفضي إليه من تمييز متنام بين المنتجين والمستهلكين . (وتدل معلومات صندوق الأمم المتحدة للتنمية على أن الاتجاه القائم حالياً هو تزايد فقر الدول النامية لانعدام التناسب بين الاستثمارات الخارجية والحاجات المحلية).
فالعولمة إذاً تسير بشعوب العالم نحو طبقية تتصاعد مع الأيام ، على أساس المال والمداخيل ، فوارقُها وشدةُ التباين فيها وليس في حسابها الشأن الإنساني بحال بل إنها لن تحقق نموذجها الإقتصادي الأمثل وكما تفيد الكاتبة سوسان جورج في كتابها (مؤامرة الغرب الكبرى " تقرير لوجانو ") إلا بالسعي إلى تخفيض عدد سكان العالم من ستة مليارات إلى أربعة لا تهمها الوسيلة التي تستخدم للوصول إلى ذلك بدءا من التعقيم وإطلاق حرية الإجهاض إلى إشعال الحروب والصراعات وزيادة الأوبئة والكوارث والأمراض الفتاكة.
إن لبنان واحد من بلدان العالم الثالث التي تواجه شبح العولمة المخيف وما يخفيه لها من مزيد من الهموم والمعاناة .. وليس أمام مجموعة الدول العربية والإسلامية إذا أرادت إبعاد هذا الشبح وشروره وتحصين وحماية نفسها واقتصادها من سطوته وأطماعه في المنطقة سوى أن تفيق من رقدتها وتستعيد الثقة بنفسها وتتسلح بالإرادة الصلبة وتعمل على حشد إمكاناتها وقدراتها : كل دولة دولة من جهة فلبناننا مثلاً يعود ضمن خطط مدروسة إلى أرضه الطيبة يبني في وديانها ووهداتها لماء السماء الكريمة سدوداً تحفظها من الضياع ويعمل على توسيع رقعتها الزراعية وتجديد وتكثير ناتجها الزراعي ، وتشجيع المشغل والمعمل الذي يستقبل الفائض منه ويحوله إلى صناعة وطنية (ويعنى بجماله الطبيعي ولوحاته الساحرة ومعالمه السياحية) ، ويحكم الرقابة على وزاراته ودوائره الحكومية ومؤسساته لوقف نزيف الهدر والتسرب فيها ضمن مشروع الإصلاح الإداري الذي صفق له يوماً كل لبنان ثم غرق فجأة في خيبة أمل مريرة ، ونفضِ غبار الاسترخاء والترهل عن تلك المؤسسات والدوائر وتحويلها إلى ورشات عمل دؤوب تبني اقتصاد الوطن وتنقذ الشعب والبلاد من كارثة لن تتلافاها المقابلات التلفزيونية والإعلامُ التلميعي في الجرائد والمجلات صديق المال والنفوذ السياسي في بلدنا الذي ملّه الشعب اللبناني ، المتطلع إلى رؤية عمل يتطور ، وواقع بائس يتغير لصالح كل أبنائه..
هذا كله في خط موازٍ لبناء المجتمع اللبناني تربوياً ووطنياً تتعاون على إنجازه كل المؤسسات بدأً من الأسرة وانتهاءً بالوزارات وفروعها مروراً بالمدارس والجامعات والأندية والجمعيات الأهلية .
ثم كافة الدول العربية والإسلامية كهيئة مجتمعة من جهة أخرى بأن تسارع إلى تعزيز القواسم المشتركة فيما بينها : الثقافية منها كاحترام الدول العربية للغتهم الأم في أقل تقدير ، التي نراها ، ويا للأسف مصونة في إذاعات الغرب الناطقة باللغة العربية ، ومُنْتَهَكَةً مهشمةً – تستدر دموع الخليل وسيبويه – في معظم إذاعاتنا العربية .
وإحضار ثروتها العقيدية السمحة وآداب شعوبها الاجتماعية ، وقيم تراثها الوطني إلى مراحل الدراسة على اختلافها ، وإلى كتاب الثقافة العام ، والمجلة المتداولة سيما مجلة الطفل والشباب ، وتحبيب المجتمع ككل بالقراءة ولذة الاطلاع ، الأمر الذي نجح به الغرب إلى حد كبير وكان سبباً هاماً من أسباب انتشار الوعي في مجتمعاتهم وبناء الديمقراطية فيها.
والاقتصادية بالانفتاح على عمقها الجغرافي بما في باطنها من كنوز ، وما يمتد على ترابها من خصوبة، والتنسيق فيما بينها في مجال زراعة الأرض وحسن استثمارها فيما يحقق التكامل والأمن الغذائي لديها وإحياء مشروع السوق المشتركة الذي بات مشروعاً مصيرياً يتفاقم الشعور بالحاجة إليه يوماً بعد يوم في عالم الشركات والكتل الاقتصادية التي لا ترحم ليقود حركة اقتصادية فاعلة أو يكون في الأقل سداً أمام ضغوط السوق العالمية المتزايدة .
وعجباً بنت الدول الأوروبية سوقها المشتركة بخطى ثابتة على ما بينها من تباين اللغة ودموية التاريخ وهشاشة الانتماء الديني ، ويبقى مشروع السوق العربية حبراً على ورق لم تخط الدول العربية على طريق إنجازه وتحويله إلى واقع خطوة واحدة على ما بينها من وحدة اللغة والعقيدة والتاريخ وتقارب العادات والآداب الشعبية .
والعسكرية : بإحياء معاهدة الدفاع المشترك ، وزرع روح المقاومة في نفوس الناشئة والشباب من خلال التثقيف الوطني والخدمة العسكرية . وإنه لذو مغزى وطني جميل ومعبّر – في هذا السياق – ما تعتمده دولة عربية شقيقة من زيٍّ موحدٍ بشكل البزة العسكرية لطلاب مدارسها في كل مراحلهم الدراسية : يكبر الطفل ويختزن في صدره إلى جانب العلم والمعرفة رجولة وروحاً وطنية .
وإذا كان سلوك هذا الطريق وعراً بسبب مواقف الحكام المتخاذلة فليس أمام شعوبنا وقواها الحيّة الذي يرتسم هذا الطريق هدفاً طموحاً أمام أبنائها ، سوى الضغط باتجاهه مهما واجهت من مصاعب وتضحيات فالأمر إنما يعنيها هي والمخاطر تحدق بها وبمستقبل أجيالها ، وإن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة في الحقيقة هي ليست أنياب العولمة وإرهاب شارون وترسانة إسرائيل العسكرية وحسب ، وإنما هي قدرة شعوبنا على سلوك هذا الطريق والمضي فيه قدماً متسلحاً بالإرادة الصلبة:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
إن الإرادة تصنع المعجزات . وقد استطاع مغزل غاندي – بالأمس – أن يقهر شركات رأس المال البريطانية ويطرد الاستعمار البريطاني ذليلاً من بلاده .
فحري بأمة يعيش في نبضها محمد وعلي والحسين والسيد المسيح أن تقف شامخة فوق أرضها تتكسر على جدران صمودها مخططات الاحتلال والعولمة الأمريكية والإرهاب والنزق الصهيوني .
وتاريخها في مواطن التحدي مليء بالشواهد الشامخة على قوة إرادتها بدءاً من صدّ أمواج المغول وانتهاءً بسحق أبناء الجنوب الاحتلال وطرد جيشه ذليلاً من أرضهم .
إن أمتنا بمخزونها العقيدي الثري وتجارب نضالها الوطني المديد ليست جديرة بالوقوف صلبة أمام الهجمة الأمريكية الصهيونية الراهنة وحسب ، بل وأن تبدأ مشروع التغيير وبناء الذات وأولى مهماته العمل المسؤول الجاد في توحيد شرائح المجتمع وطاقاته تحت راية المصلحة العليا والهدف المشترك مهما تباينت وجهات النظر وأنماط العيش لدى أبنائه في مسائل الحياة على اختلافها بدءا من مجتمع البلدة والمدينة ، ومروراً بأبناء الوطن وفرقائه وهيئاته وقواه المختلفة ، وانتهاء بمجتمع الأمة . وإن فشل أي فريق أو حزب في ممارسة عملٍ أو نهجٍ توحيدي خلوق سيما داخل مدينة صغيرة كالنبطية مثلاً ليشكك حكماً في جدية هذا الحزب وقدرته على توحيد أمة بكاملها .
إن أمتنا حين تملأ العقيدةُ وآداب العقيدةِ قلبَها لجديرة بالتغيير وبناء الذات والنجاح في هذا الطريق ، بل وجديرة أيضاً أن تقدم هي للعالم مشروعَ العولمة .
المشروعَ الذي نجد معالمه الإنسانية والحضارية واضحة في دولة علي عليه السلام وحاكميته :عولمةً تقدس الحياة : من أحيى نفساً كأنما أحيى الناس جميعاً .
وتحترمُ الإنسان : الناس {إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق} .وتقرُ بالتنوع بين البشر: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل}. وتدعو إلى التعارف فيما بينهم وتبادلِ الخبرات {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وانتقاءِ الأصلح والأكثر نفعاً للناس على أساس: أن خير الناس من نفع الناس في حركة تكامل وتقدم دائم إلى الأمام .
وتدينُ إلغاءَ الآخر بل وإيذاءه (والانتقاص منه) وجرح كرامته ما دام يحترم آداب التعايش . يقول الإمام علي (ع) : من آذى ذمياً ( أي مواطناً على غير دين الدولة) فقد آذاني . وجعل الحوار لغة التفاهم وحل المشاكل بين الفرقاء لا القوة والعنجهية ووسائل القمع . { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم}.
عولمةً سياستُها العدل بين الناس يتساوى فيها الجميع أمام القانون لا سياسةُث الخداع والكيد واللعب على الألفاظ وسحق القيم فداء للمصالح الذاتية أو سياسيةُ المحاباةِ والكيل بمكيالين محلياً أو عالمياً: ترسانةُ إسرائيل النووية خارج الرقابة العالمية ، والمفاعلُ النووي العراقي يضربُ يوماً ، وتُهَدَّدُ إيران اليوم لمجرد الاشتباه بأنها تعد برنامجاً نووياً .
الحاكم أبٌ للرعية يواسيهم بنفسه ولا يتميز عليهم في مستوى العيش : (أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم خشونة العيش ومكاره الدهر) .
هو وجهازُ دولته خليةُ نحلٍ دؤوب تعمل في خدمة الشعب ورفع مستواه المعيشي :
إعلامها حرّ: عالمياً: لا يقلب الحقائق دون خجل فيجعل مقاومة المسحوق إرهاباً ومصاص الدماء بطل سلام .
وحرّ . محلياً . لا يضعفُ أمام المال أو سطوةِ السياسة . سعادةُ قلمه نصرةُ الحقيقة ورفعُ صوت المظلوم . من صميم مهماته إشاعة الإيمان والفضيلة والترويج للخلق الكريم في أوساط المجتمع والأمة .
عولمةً أرسى نواتَها عليٌّ عليه السلام قبل قرون طويلة .
ولئن استُشهد وهو يكافح على طريق إتمامها وإنجاحها لصالح شعبه وشعوب العالم القادمة .. فقد ترك تجربتها سطوراً مضيئةً تشجيهم عندما يقرأون صفحات التاريخ ، وتهزُّ وجدانهم بالأماني العذاب عندما ينظرون إلى المستقبل متسائلين – وسط عالم تُضنيه الحروب وإراقة الدماء وسطوة الحكام وقهر الأحرار ويشيع فيه الفقر والمجاعات والعلائق الاجتماعية المتدهورة .
هل لتجربة علي عليه السلام أن تعود وتحتضن الشعوب المقهورة بيديها الحانيتين وتمسح جراحها وتنهي آلامها ومآسيها الطويلة ؟!.
يجيبنا الكتاب الذي يعشقه علي ويسمر كلَّ ليلة مع دموعه على قراءة آياته : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }.
فيبسطون على كل الأرض كما بشرت بذلك كل الأديان والمذاهب عبر سيول من الأحاديث والأخبار بقيادة عملاق التاريخ حفيد علي عليه السلام مشروع العولمة السعيد لصالح كل شعوب العالم بعد أن يمزق مشروع العولمة العاتي المزيف .
تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية :
كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي، فمن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gender بدل كلمة (sex) يقول الدكتور محمد الركن في مجلة المستقبل الإسلامية: (ومن المسائل الجديدة المستحدثة التي تحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها مسألة تعريف الجنس والأسرة، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح Gender، باللغة الإنجليزية، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى غليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين، فلفظة الجندر لا تتطابق تمامًا مع لفظة (sex) بل إن لها أبعادًا خطيرًا قلمًا تشبه إليها.
والموسوعة البريطانية تعرف الجندر بأنه : (لقبل المرء لذاته، وتعريفه لنفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي) .. فهناك من الأشخاص من يرون أن لا صلة بين الجنس والجندر، إذ أن ملامح الإنسان البيولوجي الخارجية الجنسية مختلفة عن الإحساس الشخصي الداخلي لذاته أو للجندر .. بعبارة أخرى أكثر تبسيطًا فأنا الجندر بعبارتهم تنصرف إلى غير الذر والأنثى كجنسين فقط. ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلا بهما، فالجندر تشمل الشاذين جنسيًا من سحاقيات ولواطيين ومنحولي الجنس، إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقًا محمومًا من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية، وخصوصًا الأوروبية لفرض لفظة Gender بدل لفظ (sex) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاولة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان).
تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية :
كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضًا لأحكام الشريعة الإسلامية بفرضها مبادئ تخالف الشريعة ومن الأمثلة :
تسويق العولمة توهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق على الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة، ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافًا في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية.
والمؤهلات التكوينية بينهما، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمر قطعي الثبوت والدلالة ولا خلاف فيه، ولا مجال فيه للاجتهاد .. وفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مطلق المساواة كما لا يخفى.
الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين:
على هذا قام الفقه الإسلامي ودلت على ذلك نصوص الكتابة والسنة وإجماع العلماء وبدءًا من باب الطهارة إلى باب الشهادات، آخر أبواب الفقه الإسلامي، تجد المرأة والرجل يجتمعان في أحكام ويختلفان في أحكام أخرى .. ومن صدور الاختلافات ما جاء في أحكام الحيض والنفاس، وأحكام لباس المر’ وفي الصلاة وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها وكون صلاتها في بيتها أفضل، وأنها ممنوعة من الآذان بإجماع العلماء، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماع العلماء وأنها تصفق لتنبيه الإمام إذا سهى ولا تسبح كالرجال، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ولا يجوز لقدمهن ولاختلاطهن بصفوف الرجال بإجماع الفقهاء، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، أخرجها مسلم، بعكس الرجال.
ومن الأمثلة أيضًا على الاختلاف إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام، وفي عدم وجوب الجهاد عليها وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة وجعل الطلاق بين الرجل في الأصل، وتقديمها في الحضانة في الجملة وفي تحريم الخلوة بها وفي تحريم التبرج وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء.
وهذا كله على سبيل المثال وإلا فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل، كما دل على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى: (وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران: 36].
وأما العولمة فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ترفض أيضًا التمييز بين الرجل والمرأة مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع وأن دور كل منهما مكمل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي بناء على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل وأن مؤهلاتها واستعداداتها الفطرية تقتضي توليها دورًا في المجتمع يختلف عن دور الرجل، وهو الدور الأسري.
إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساسي بين الجنسين ولا بأس أن أستشهد هنا بما أورده مؤلفا كتاب جنس الدماغ (Brainsex) . الدكتور في علم الوراثة (أن غويره، ديفيد جييل)، وهو في الحقيقة مؤلف اشترك فيه أكثر من 350 اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة (كوراين هت) لنهما نقلا نتيجة إجابات كل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب.
يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : (ثمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم) .. ثم قالا في وصف وفرق للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية : (الرجال مختلفون عن النساء) وهم لا يتساوون إلا في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري .. والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية، فالجنسان مختلفان لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة، قد تم تركيبه بصورة مختلفة عند كل منهما، والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك.
وإنما أصّلت في هذا المثال لأن حمى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج، منساقة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية، ولأنها قضية بالغة الخطورة لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقًا للمفاهيم الغربية.
إنه مثال واضح لما تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها.
تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية :
كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافيًا وفكريًا.
فالكون ـ في نظر العولمة الثقافية والفكرية ـ لم يخلق تسخيرًا للإنسان ، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً؛ والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى، والحياة ليست صراعًا ابتدأ منذ خلق الإنسان بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان .. والشيطان ليس هو الذي يقود ـ في الحقيقة ـ معركة الباطل ويجند لها جنوده من الرجال والنساء. كما قال سبحانه وتعالى: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) [الإسراء: 64]. وقال سبحانه وتعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا) [مريم: 83]، وقال الله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغون فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا) [النساء: 76]، وقال سبحانه : (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك ) [الحشر: 16]. هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة.
كما أن الموقف من أمم الأرض ـ في نظر العولمة الفكرية والثقافية ـ ليس على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :
أ ـ (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعهما العقيدة ولا تفرقهما أي وشيجة أخرى.
ب ـ وإلى كفار تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين.
هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها، وتهدمها من أساسها ـ فالكون ـ في نظر العولمة ـ ما هو إلا ميدان تنافس على المصالح الدنيوية، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أ، تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال، وليس وراءها شيء آخر، وما هي إلا سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تعظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع، ولا يصح التفريق بين الناس على أساس عقائدهم فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة.
إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم . بل تنفضها وتستعيض عنها بمفاهيم غريبة كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة.
تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية :
لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي دعوة تنفض عقيدة الإسلام من أساسها وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتعبير ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي.
والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء، وإن ألحق في هذه الدائرة نسبي يحسب اعتقاد كل أمة .. ولا يصح في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولهذا تشجع العولمة ما يسمى (حوار الأديان) لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان .. وتنجلي خطورة هذه الدعوة في كونها تنفض عقد الإسلام من أصله، فعقد الإسلام لا يستقيم إلا مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى، والإيمان لا يعد صحيحًا إلا على أساس قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرين لا أعبد ما تعبدون) [الكافرون: 1 ـ 2]، أي باعتقاد كفر كل من يعبد غير الله تعالى أو بزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران : 85]، وقوله: (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران : 19].
كما يعبر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن من نواقض الإسلام من لم يكفر المشركين والكفار أو شك في كفرهم أو صحح دينهم .. والكفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وقولهم : إن من نواقض الإسلام أيضًا من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
أهداف العولمة :
1 ـ محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم، خاصة الداعي منها وإذابة خصائصها.
2 ـ تهميش تميز دين الإسلام، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة تمهيدًا لشن هجوم على مبادئه وتعليمه وصد الناس عن الإيمان به.
3 ـ فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتصار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصارًا نهائيًا، والتسليم بلزوم تعليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد.
4 ـ إبقاء حال الهيمنة الغربية ـ بأعمدتها المذكورة آنفًا ـ أطول فترة ممكنة تحت شعار مصطلح العولمة.
هوية بلا هوية :
وباختصار العولمة هي في الحقيقة (هوية بلا هوية) وهدفها باختصار تفريغ ثقافة (الغير) من محتواها واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يطلق عليه اسم (العولمة) لأنه لو قيل للعالم (الأمركة) لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى، فاستبدل باسم (العولمة) فكأنهم يقولون تعالوا لنصير جميعًا عالمًا واحدًا، وننصهر في ثقافة واحدة ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب .. الخ، حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ اكتشفوا أنهم في قفص الأمركة والعالم الغربي، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم (العولمة) تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحبر السري، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو (التغريب) واكتشف المخدوعون أن حضارتهما سلبت من حيث لا يشعرون وثقافاتهم ذابت من حيث لا يعلمون وهويتهم طمست بالتدريج من حيث لا يدرون.
إذن العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية) بانهيار أحد قطبيه ـ وهو الاتحاد السوفياتي ـ وسيطرة قطب واحد وأخذ يهيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسيًا وعسكريًا .
هذا القطب الواحد ـ كما أشرنا في مطلع هذه المقالة ـ يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه (العولمة) .. وقد بدأت تظهر آثار سياسية هيمنة وسيطرة القطب الواحد (دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ومنهاج تعليمه وفي طراز حياته وفي طعامه وشرابه حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها أتاتورك على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن.
خطر العولمة الثقافية

حامد عبد الله العلي

الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :
فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين بعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية هي في ثوابتها من لأن الدين ليس أمرًا مفصولاً عن الثقافة.
أعمدة الهيمنة الأربعة :
ولقد أصبح من الواضح في تحميل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن العولمة ما هي إلا أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب (الولايات المتحدة وأوروبا)، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي، ما حوتها من العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقًا مريحة أو ساحة مصالح لدول القلب أو ثقلها بهذه العمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة ببقاء تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.
وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
الشريعة الدولية: حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في (الأمم المتحدة) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم، ولم يعد بهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشريعة الدولية) فتصدر قرارًا من مجلس الأمن لعقاب من تريد .. لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكًا لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة على تحريك الشرعية، هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها. قانون الهيمنة والسيطرة.
السلاح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها.
والخامات: مثل النفط والقمح، وبوسيلة هذا العمد تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضًا في الدولة الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.
والعولمة تعتمد على محورين أساسيين :
المحور الأول : التجارة العالمية .
المحور الثاني : الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .
والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغربية إلى أسواق العالم، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب كما تقدم والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي.
الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة:
الأولى : الموقف القابل للعولمة الذائب فيها والمؤيد لها تأييدًا مطلقًا .
الثاني: الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً.
الثالث : الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.
الرابع : الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر.
أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع، وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج التعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة ولا بإحداث انقلاب جذري استئصالي.
وأما الموقف الرافض فهو موقف خاسر غير واقعي وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري.
وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي. والذين يعتبرون أنفسهم معتدلين لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييدًا مطلقًا للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي) أيضًا .. وهاتان اللفتتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عمليًا (قص والزق) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعارضة، وما هذا الصنيع إلا تكريس لإلغاء الذات أو لتشويهها لصالح الأجنبي.
وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقالي الحذر، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية، والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.
الموقف الصواب من العولمة :
وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبي صلى الله عليه وسلم : (.. حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وورد في بعض ألفاظه: (ولكن لا تصدقوهم.. ولا تكذبوهم) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب، غير أنه صلى الله عليه وسلم يرفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه.
وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على اعتناء لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد، مما يمكنها عن إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قيامًا بدورها في الشهود الحضاري.
أهم أخطار العولمة :
تعرف العولمة مطلقًا بأنها ظاهرة لانتماء العالمي بمعناه العام، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة ـ الإقليمية والعنصرية والطائفية ـ وغيرها إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح لتجذري وإلغاء القيود التجارية، وتوفير فرص لتتبادل التجاري الواسع محكومًا بقواعد السوق فقط بدون وجود إجراءات حمالية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء الآخر: لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان.. فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصاد على الانتماء المحلي الإقليمي (الديني، العنصري، الطائفي).
لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي ينطوي عليها أهدافها.