الثلاثاء، 31 مارس 2009

دوائر العولمة :
هل للعولمة جانبٌ واحد، هو الجانب السلبي الذي ينعكس في الآثار السيئة والمضار والمخاطر التي تهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، أم أن لها جوانب متعددة، منها السلبي، ومنها الإيجابي؟.
نعتقد أن هذا السؤال يصحُّ أن نتخذه مدخلاً إلى فهمٍ أعمق للعولمة، على المستويات كافة، وبصورة خاصة على المستوى الثقافي، وإلى استيعابٍ أشمل لمضامينها.
والحق أن ما من نظامٍ أو منهج، أو فكرةٍ سياسيةٍ واجتماعية تتصل بحياة البشر، إلا ولها وجوه متعددة، على اعتبار أن الفكر الإنساني هو ذو منزع مزدوج من الخير والشر، وهما العنصران الكامنان في الضمير الإنساني. وعلى هذا الأساس، فإننا نرى أن للعولمة دوائر تتحرك فيها، وهي بذلك ليست دائرةً واحدةً منحصرة في حدود معلومة. وللإرادة الإنسانية تأثيرٌ في تحديد هذه الدوائر ورسم معالمها وضبط مساراتها.
وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة، فإن التركيز على الجانب الإقتصادي والسياسي للعولمة، جعلها تغيب في أحايين كثيرة، عن الأذهان، لدرجة أنّ معظم المفكرين في العالم، ومنهم طائفة من المفكرين في العالم الإسلامي، يغفلون عن الجوانب الأخرى للعولمة، وينزعون نحو إدانة العولمة جملةً وتفصيلاً، الأمر الذي تضيع معه عناصر كثيرة من الحقيقة، بحيث يقع الخلط بين الحق والباطل، وبين الواقع والمثال.
إنَّ رفضنا العولمة وتنديدنا المتكرّر عاليَ الصوت، بآثارها السلبية، وتركيزنا على نقض أسسها ودحض ادعاءات المروّجين لها، كل ذلك لن يؤثر في طبيعة الوضع الناجم عن هيمنة النظام العالمي الذي يفرض العولمة على العالم، ولن يكون لموقفنا هذا، أي تأثير إيجابي على العولمة، من حيث هي فكرة ومنهج وأسلوب ونظام وتيار عارم جارف يكتسح الحواجز ويدكّ المواقع.
ولذلك، فإننا ندعو إلى أن نلتمس للعولمة جوانبَ إيجابية، ونعمل ما وسعنا العمل، لتوظيف إيجابيات العولمة فيما ينفعنا في حياتنا العامة.
إن المسألة في حاجة شديدة إلى ضبطٍ منهجيٍّ نتحكَّم به في العولمة بأعلى ما نستطيع من قدرات. وبذلك نسلك طريقنا إلى الاِستفادة من العولمة على النحو الذي يدفعنا إلى الإسهام في الحضارة الإنسانية الجديدة، من موقعنا الثقافي المتميّز وبخلفيتنا التارخية وبهويتنا الحضارية المتفردة.
إن هذا الموقف الإيجابيّ إزاء العولمة يتطلب منا أن ننخرط في المعترك الثقافي العالمي، وأن ندفع بمجتمعاتنا في اتجاه التفاعل المتحرّك مع المتغيّرات المتسارعة، حتى نفهم ما يجري حولنا، ونستوعب التحوّلات الكبرى التي تعيشها الإنسانية في هذا العصر، ولئلا نبقى قاعدينَ نندب حظوظنا، وعاجزينَ نتفرّج على العالم يتطور ويتقدم.
إن الهزيمة النفسية أمام العولمة تأتي من اعتبار ظاهرة العولمة حتميةً. وهذا أمرٌ مبالغٌ فيه، وهو لا يعبّر عن حقيقة هذه الظاهرة، لأن اعتبار ظاهرة العولمة حتميةً، قد لا يكون في الحقيقة أكثر من اعتراف المرء بأنه لم يعد لديه طاقة باقية للمقاومة، أي أنه قد نفد جهده، وأصبح مستعداً للتسليم. فإذا كان هذا هو اختيار بعضهم، فهو ليس مُلزماً لغيرهم، ومن الظلم على أي حال، أن يوصف بالحتمية اختيارٌ لا يعكس إلا نفاد الطاقة أو استعجال المكافأة. وهو موقفٌ ظالم، لأنه يحمّل عدة أجيال قادمة عبءَ فشل جيلٍ بعينه، فاعتبار ظاهرة ما حتميةً، يتوقف أيضاً على المدى الزمني الذي يأخذه المرء في اعتباره ((5
إن حقائق الأشياء تؤكد أن العولمة لا تمثّل خطراً كاسحاً ومدمراً، إلا على الشعوب والأمم التي تفتقر إلى ثوابت ثقافية، أما تلك التي تمتلك رصيداً ثقافياً وحضارياً غنياً، فإنها قادرة على الاِحتفاظ بخصوصياتها والنجاة من مخاطر العولمة وتجاوز سلبياتها.
ومن الأساليب التي يستخدمها مهندسو العولمة ومروّجوها، تنميةُ الشعور بالهزيمة والاِستعداد للاستسلام أمام ما يريدون فرضه على الشعوب والحكومات، من خلال إضعاف الإحساس بالذاتية، وبالتميّز، وبالاِعتزاز بكل ما يمتُّ إلى التراث الحضاري والرصيد الثقافي، بصلة.
ومن هنا نجد أن الرفض العالمي للعولمة يَتَنَامى باطّراد، وإن كان لا يملك أن يؤثر في صدّ هجمات العولمة على أمم الأرض وشعوبها، على الأقل في المدى المنظور، لأننا نعتقد جازمين، أن كل نظام ظالم للإنسان، أو عقيدة قاهرة للفطرة، أو منهج يفرض الهيمنة على الإرادة الإنسانية ويتحكّم في أشواق النفس البشرية الروحية وتطلعاتها الثقافية وطموحها الحضاري، هو إلى انهيار وزوال، لأنه يصادم سنة اللَّه في خلقه، ويَتَنَافَى مع فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها.
وأمام عنفوان العولمة وضغوطها القوية، لا ينبغي أن نستسلم ونذعن لإرادة الأقوياء المتحكمين في أَزِمَّة الأمور في ظل النظام العالمي الجديد. ولا يتعارض هذا الموقف المطلوب منا اتخاذُه، مع ما ذكرناه آنفاً.
إن الخطأ المنهجي الذي يقع فيه طائفة من المفكرين من العالم العربي الإسلامي الذين بحثوا ظاهرة العولمة، يكمن أساساً في أنهم بدلاً من أن يرسموا الخريطة الجديدة التي يتعيّن على المجتمعات العربية الإسلامية فهمها والعمل في حدودها، ويُضيئوا أمام أصحاب القرار والنخب المثقفة والمفكرة، المصابيح لتسلّط على الحقائق كما هي، لا كما نتوهمها أو نتخيلها، راحوا يُسهبون إسهاباً مفرطاً، في تعداد مساوئ العولمة وأضرارها والمخاطر التي تتسبَّب فيها، فكانوا بصنيعهم هذا، يقومون بشقٍّ من الواجب، ولا ينهضون بمسؤوليتهم كاملة.
إن أحداً منا لا يجادل في أن ثمة شواهد كثيرة تشير إلى أن قوى العولمة المعاصرة ليست سوى امتداد عضوي وإيديولوجي لقوى الاِستغلال والسيطرة والاِحتواء وتعمل على تكريس التبعية من جانب الدول الأقل نموّاً لتلك الأكثر نموّاً، وإن كانت آليات تكريس التبعية قد اختلفت في ظل العولمة، من الاِستعمار التقليدي، إلى اللجوء لسياسة الضغط الاِقتصادي (6). فهذه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها. ولكن هل تقف مسؤوليتنا عند هذا الحد، وهو الجهر بهذه الحقيقة، أم أن المسؤولية تمتدُّ وتتشعب وتَتَوَاصَلُ؟.
إن المنهج في بحث ظاهرة العولمة، هو إلى الوصف التحليلي والنقد السياسي من منطلق إيديولوجي، أقرب منه إلى المعالجة العلمية المستنيرة المبرأة من كل هوى سياسيٍّ أو إيديولوجيّ. ولذلك كان من السلبيات التي وقع فيها معظم من عالج قضية العولمة من خلال هذا المنهج، العزوفُ عن الموضوعية المجردة تحت تأثير الفكر الشمولي الذي كان يسود في عهود القُطْبَين الأكبرين في زمن الحرب الباردة.

مسألة: يجب السعي لنجاة الغرب من مساوئ العولمة الغربية التي سببت ضرر الإنسان الغربي أيضاً، فإن على الإنسان مسؤولية هداية أخيه الإنسان وإرشاده إلى الخير والصلاح وسعادة الدنيا والآخرة، علماً بأن الغرب ليس بأجمعه عدواً للإسلام والمسلمين بل هم أعداء لما زعموه من الإسلام، فإذا عرفوا حقيقة الإسلام وسماحته وشموليته ومطابقته للفطرة الإنسانية لأقبلوا عليه ودخلوا في دين الله أفواجاً، وقد ذكرنا في كتاب (كيف يمكن نجاة الغرب؟)[1]:
إن الغربيين أناس قابلون للهداية، فإنهم بشر والبشر بفطرته يحب الخير لنفسه ولغيره، ووجود ظواهر التعصب فيهم لا يدل على أنهم متعصبون..
ودليل عدم تعصبهم قبولهم للمسيحيّة، مع أن المسيح (عليه السلام) كان شرقياً وليس غربياً[2]، فاللازم اهتمام المسلمين سواء في بلاد الغرب وما والاها أو في غيرها من سائر البلاد غير الإسلامية أن يدخلوهم في الإسلام وذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، واللازم أن يكون هذا الاهتمام قربة إلى الله تعالى لإنقاذ البشرية من ويلاتها.
وقد كان تنحي الغرب عن المسيحية إلى المادية الغارقة في الظلمات بسبب إفراط الكنيسة ومحاكم التفتيش وما إلى ذلك في القرون الوسطى، والإفراط عادة ينتهي إلى التفريط وبالعكس، ولذا فإنه يسهل دخولهم في الإسلام، فإن الإسلام بذاته ناجح لأنه دين الفطرة ولا يحتاج إلى مؤونة زائدة لإثبات حقانيته، وهذا من أهم ما يوجب هداية الغرب إلى الإسلام.
فاللازم الاهتمام الكافي لبيان أن الإسلام دين ودنيا، ويهتم بأمور الدنيا كما يهتم بالآخرة ويضمن سعادة كليهما، وان الذي لا يتبع الإسلام بكامله يبتلى بما أنذر به القرآن الحكيم: من خراب الدنيا ـ كما نشاهده الآن في أرقى حضارات الغرب[3] ـ وعذاب الآخرة كما في القرآن الحكيم، قال تعالى: ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى )) [4].
وقد ذكرنا في كتاب (الغرب يتغيّر) تفصيلاً حول اضطراب المناهج الغربية الموجبة لاضطراب الإنسان الغربي بنفسه، فكيف بالإنسان المستعمر تحت نفوذه؟
فبيان كل ذلك من ناحية، وبيان المنهج الإسلامي الصحيح من ناحية أخرى يوجب توسيع دائرة الإسلام وكثرة الإقبال عليه.
الغرب نحو التغيير
لعل ظواهر الأحداث تدل على أن الغرب أعم من أمريكا وأوروبا، في حال تغير سريع، ربما لا تمر عشر سنوات إلا ويحصل التغيير.
وأمام الغرب تغيران:
الأول: التغير نحو الإسلام، وذلك إذا أحسن المسلمون التصرف وتمكنوا من تعريف الإسلام إلى الغرب بالكيفية التي طبقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام).
الثاني: التغير نحو الإصلاح النسبي، ومن الطبيعي أن يكون الإصلاح لصالح الإسلام أيضاً، فإن كل إصلاح وخير قد أمر به الإسلام.
وعقلاء الغرب منزعجون جداً من السلبيات التي أدت إليها الحضارة الغربية، وهم يفكرون في العلاج الجدي لها، ومن مظاهر تلك السلبيات أمور:
الأول: الفراغ الروحي، فإن المادة لا تملأ الروح، كما أن الكنيسة الخاوية عن المعنويات اللازمة لا تتمكن من أن تسد هذا الفراغ الحاصل، وقد قالوا: فاقد الشيء لا يعطيه.
الثاني: الفوضى في أمور الجنس، فإن ذلك يوجب انزعاجاً للأعزب والمعيل، وللمتدين وغير المتدين، حيث يحرم الإنسان من دفء العائلة ويصرفه عن تربية الأجيال الصالحة، مضافاً إلى ما يسببه من الأمراض الجسدية والنفسية كالقلق والكآبة وما إلى ذلك.
ومن المعلوم أن قانوناً يبيح السفور والبغاء واللواط والأخلاء والخليلات يوجب سقوط كرامة المرأة، وخروج الأسرة عن الدفء والحرارة الزوجية والعائلية إلى البرودة وجعل العوانس بالملايين[5]..
الثالث: التضخم والروتين الإداري على حساب حرمان الناس، فإن كل موظف يقلل من حريات الناس بقدره، نعم بعض الموظفين ممن يحتاج إليهم، ولكن البعض الآخر وهم الأكثر الأكثر في نظام الغرب الحالي، يوجب خنق الحياة، فزيادة الموظفين إلى حيث واحد لكل خمسة عشر، توجب كبت الحريات وإهدار الأموال والأوقات، وكثرة الرشاوى وتأخير العمران كما هو واضح، ومن هنا تريد الشعوب التخلص من هذا التضخم إلى المقدار الضروري فحسب.
الرابع: انعدام الصحة وتفشي الأمراض بصورة مدهشة، مما لم يكن له نظير في تاريخ العالم الإنساني، ولا شك أن هذه الأمراض هي وليدة الحضارة المنحرفة، ولا فرق في انعدام الصحة الجسدية والنفسية، مما هي نتيجة القلق والجشع وحب السيطرة، وما أشبه.
الخامس: الاستعمار، حيث له ضرران:
ألف: إنه مخالف للفطرة، فإن الإنسان السليم النفس ـ وهم أغلبية الناس حيث ((فطرة الله التي فطر الناس عليها)) [6] ـ لا يرضى بأن يستعمر غيره مهما كان المبرر، ولذا نرى شعوب تلك البلاد ـ على الأغلب الأغلب ـ ضد استعمار حكوماتهم لبلاد العالم الثالث وغيرها.
ب: إن الحكام لا يمكنهم عادة المحافظة على طبيعتين مختلفتين: طبيعة الاستيلاء في الخارج، وطبيعة الأخوة والخدمة الإنسانية في الداخل، ولذا سرى استعمارهم الخارجي إلى استعمارهم لداخل بلادهم بنسبة أو أخرى، وهذا مما لا ترضى به شعوبهم.
السادس: الغرور الذي أوجب لبعض الغربيين أن يخطط لتحطيم الإنسان الذي لا يكون من عرقه وقومه ودينه وجنسه ووطنه، بينما المعيار في الإسلام هو الإنسان بما هو إنسان، وقد أراد الإسلام الارتفاع والتعالي ومكارم الأخلاق لجميع الناس.
لذا أخذ علماء الغرب يفكرون في نجاة البشر من هذه المآسي.
إن تغيير الغرب نحو الأفضل يمكن عبر العولمة الإسلامية والتعرف على المناهج الفطرية السليمة التي جاء بها الإسلام وبينها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام).
المنظمة العالمية الإسلامية
ومن الضروري أيضاً لنجاة الغرب تشكيل منظمة عالمية إسلامية تختص بهذا الأمر، فان الفرد بمفرده لا يتمكن من الوصول إلى الهدف المطلوب، والحركات الإسلامية في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية وإن كانت كثيرة لكنها لا ترتبط بعضها ببعض.
وهذه المنظمة العالمية الإسلامية إذا أرادت نجاة الغرب فهي بحاجة إلى أمور كثيرة، من أهمها: اللاعنف، فإن من الضروري على الحركة العالمية التي تريد نجاة الغرب، سلوك طريق اللاعنف.
قال سبحانه: ((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك )) [7]، فإنه وإن كان ظاهراً في المسلمين، إلاّ أن العلّة عامة، فتشمل حتى غير المسلمين بعدم ممارسة العنف معهم وذلك في طريق الهداية والتبليغ.
وأما قوله تعالى: ((أشداء على الكفار)) [8] يراد به في حال الحرب وما أشبه، وإلاّ فالنبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن عنيفاً حتى مع غير المسلمين أيضاً في الحالات العادية، كما يدل على ذلك سيرته العطرة وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
واللازم في نجاة الغرب عدم محاربة الكنائس وإن حاربت الحركة، وذلك لعدم الانشغال بالجزئيات فان المهم الوصول إلى النتائج المرضية لا ما هو حقي وما هو حقك في الأمور العادية كما في مقام التخاصم.
وحركة اللاعنف وإن كانت صعبةً جداً على النفس لكنها مثمرة جداً في الوصول إلى الهدف وهو نجاة الغرب، والعاقل يقدّم الصعوبة على الفشل والأهم والمهم.
واللاعنف ليس في بعد السلاح فقط، بل يشمل حتى الكلمة والنظرة والإهانة وغيرها، كما يشمل وسائل الإعلام كالصحف والمجلات وما أشبه، فيجب أن تكون عفيفة غير عنيفة وإن عمل الطرف بأشد العنف، قال تعالى: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلّقاها إلاّ ذو حظ عظيم)) [9].
الخدمات الإنسانية
من أهم ما يلزم على الحركة التي تريد نجاة الغرب: تقديم الخدمات الإنسانية للغربيين، بأن يهتم المسلمون بخدمة الإنسان بما هو إنسان، مؤمناً أو غير مؤمن، مسالماً أو غير مسالم..
فان الخدمة أهم ما يقرب القلوب ويخضع الأرواح.
سواء كانت خدمات صحيّة، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو اقتصادية كفتح المصارف وصناديق الإقراض الخيري وإيجاد فرص العمل للعاطلين، أو تزويج الشباب والفتيات، أو إنعاش الفقراء، أو غير ذلك مما هو كثير..
وقد ورد في الحديث: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى الماء لكفار بدر[10]، كما أعطى لأهل مكة المال الكثير في حال محاربتهم له[11].
كما أن أمير المؤمنين علياً (عليه السلام) أعطى الماء لمعاوية وأصحابه وهو في محاربته[12].
والإمام الحسين (عليه السلام) أعطى الماء للذين جاءوا لقتاله[13] ‎وأخيراً قتلوه. إلى غير ذلك من القصص الواردة بهذا الشأن.
وهذا هو شأن الله سبحانه وأنبيائه وأوليائه مع أعدائهم، وقد ورد في الحديث: «تخلقّوا بأخلاق الله»[14].
واللازم في ذلك ملاحظة جميع الجوانب حتى لا يكون إفراط من جهة ولاتفريط من جهة أخرى.
وقد يزعم زاعم أن الغرب اكتفى من هذه الجهة الخدماتية، فهو لا يحتاج إلى خدماتنا، ولكن بعد دراسة الغرب نرى كثرة احتياجاته إلى بعض الخدمات الإنسانية.. فالإنسان هو الإنسان سواء كان في الغرب أو الشرق، حوله حشد من الحاجات، وتحيط به المشاكل مهما كان مرفهاً ومنعّماً.
كما أن الإنسان بشكل عام يحب الخدوم الذي ينفعه ويخدمه مهما كان بينه وبين الخدوم بون أو شحناء، قال الإمام علي (عليه السلام): «الإنسان عبد الإحسان»[15].
وقال (عليه السلام): «الإحسان يستعبد الإنسان»[16].
وقال (عليه السلام): «إنهم ـ أي الناس ـ صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»[17].
وقال (عليه السلام): «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»[18].
فإن مثل هذه الخدمات تقرب غير المؤمنين إلى الإيمان، وغير الصالحين إلى الصلاح، والله سبحانه المسدّد المستعان.

بين عالمية حقوق الإنسان والعولمة
مسألة: هل تختلف العالمية في مجال حقوق الإنسان عن العولمة؟
أجاب بعض الأخصائيين قائلين: إن العالمية في هذا المجال شيء مختلف عن العولمة تماماً، وذلك للفوارق التالية:
أولاً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان لا تعمل على إنهاء دور الدولة، ولا تسعى للتقليل من شأنها، بل العالمية هذه تضع على الدولة التزامات معينة، وهي تحتاج إلى وجود دولة لتنفيذ هذه الالتزامات.
وهذا يعني على العكس من العولمة التي تحد من دور الدولة وسلطاتها، كي يضعف تأثير الحدود السياسية والسيادة الوطنية.
ثانياً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان تدعو للانفتاح على الآخرين وتأمر بالأخذ والعطاء معهم، فإنه كلما يتم التعاهد أو التوافق بين المجتمع الدولي على أهداف محددة، أو مفاهيم معيّنة، مقابل التزامات يقبلها الجميع، تأمر بالمشاركة وتعاون الدول فيما بينها لتطبيقه.
وهذا أيضاً على العكس من العولمة التي تحاول تسييد أوضاع معينة على العالم أجمع، أي: إنها تعتمد على التحول من الخارج.
مثلاً: إن الاقتصاديات مما لا يمكن العمل من داخل الدولة على تغييرها، لذلك ترى العولمة أنه لابد من العمل من خلال المؤسسات الدولية والضغوط الخارجية من أجل تحويل هذه الاقتصاديات وإدماجها في النظام العالمي، وليس اعتماداً على التحول التدريجي الذاتي، وهذا هو اختراق صريح للآخر، وسلب فاضح لخصوصيته.
ثالثاً: إن العالمية في مجال حقوق الإنسان معناه: الالتزام بالمفاهيم التي أقرّها المجتمع الدولي إقراراً من خلال أكثر من مائة اتفاقية ومعاهدة، وإعلان رسمي، وبيان دولي، وعدّ ما جاء فيها من حقوق الإنسان بأنه كل لا يتجزأ ومجموعة لا تتبعّض.
وهذا أيضاً على العكس من العولمة التي تسعى في مجال حقوق الإنسان إلى تعميم مفهوم حقوق الإنسان في ثقافة الدولة الأقوى، والتي هي حالياً ثقافة أمريكا التي تزعم أنها رائدة الثقافة الفضلى المؤهلة للهيمنة على العالم كلّه، وعلى جميع الثقافات وبرغم من أصحابها.
ولكن العولمة والعالمية في الإسلام فتشتمل على النمو والازدهار في مختلف مجالات الحياة من دون تضرر أحد حيث تبتني على أسس إنسانية منها: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، وقاعدة الضمان، وقاعدة السلطنة[1].
بلاء التلوث والتضخم
مسألة: إن عمليات تلويث البيئة التي أقلقت الأوساط العلمية المسؤولة، ليست على الظاهر من نتائج العولمة في نفسها، وإنما هي نتيجة عارضة من سوء الاحتراز القانوني والصناعي الذي يشجع على انتهاكه مادية العولمة الغربية، وذلك لأننا نجد أن كل المصانع سواء كانت في العراق أو الهند أم في بريطانيا أو أمريكا، فإنها جميعاً تساعد إلى قدر مّا في التلوث البيئي.
وكذلك يكون حكم تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة، فإنّها أيضاً ليست على الظاهر من نتائج العولمة في حدّ ذاتها، وإنما هي نتيجة حاصلة من جشع التجار، وطمع الشركات التي تشدّده مادية العولمة الغربية، ومن ضعف قانون الرقابة الصناعية والتجارية المفروضة على الصناعة والتجارة من جهة العولمة الغربية، وأما في الإسلام فقد شدد الرقابة عليهما بواسطة معنويات عولمته العادلة.
أما التضخم الاقتصادي والنقدي فإن نسبة مئوية منه يكون على الظاهر من نتائج نمو متطلبات الإنسان وتوسعها بصورة عامة، وهذا النمو والتوسع ليس في نفسه من مختصات عولمة دون أخرى، كما إنه ليس في حد ذاته من خصائص مجتمع دون آخر، وذلك لأن زيادة متطلبات الفرد أينما كان مسكنه وموطنه ومهما كان صنفه وجنسه، هي إحدى أسباب التضخم من غير أن يقتصر على عولمة دون أخرى، ولكن المادية الصرفة للعولمة الغربية تساعد على تشديده، بينما المعنويات الموجودة في العولمة الإسلامية تحدّ منه وتقلصه إلى أدنى درجاتها الممكنة.
وأما البطالة في المجتمع الإسلامي، أو البطالة عموماً في كل المجتمعات، فجزء منها قد ترتبط بالتطور السريع للآلة ولكن معظم البطالة نتيجة القوانين الكابتة للأنظمة الغربية والشرقية التي أخذت المجتمعات تطبقها، وهي غير الموجودة في الإسلام، فإن حرية العمل في الإسلام أكثر بكثير مما هو في غير الإسلام.
هذا ولا يخفى أن تعريف البطالة يختلف في المجتمع الإسلامي عنه في المجتمع الغربي، فربة البيت ـ مثلاً ـ قد يعتبرها النظام الغربي عاطلة عن العمل، بينما في النظام الإسلامي لا يعتبر ربة البيت عاطلة عن العمل، بل إن عملها هو: إدارة البيت، وتربية الأبناء وإسعاد الزوج، وهذا من أفضل الأعمال وأجمل المشاغل اللائق بحالها الذي يمكن للمرأة أن تعمله أو تشتغل به، مع إمكان أن تعمل خارج البيت أيضاً مراعية للموازين الشرعية.
هذا وقد أخذ بعض الكتّاب بنقد العولمة الحديثة، ونسبوا مشاكل الإنتاج والتصنيع وظهور الآلة الحديثة، والتلوث البيئي المدمّر والبطالة الهادمة، إلى أنه جزء من إفرازات العولمة الحديثة وذلك من دون الالتفات إلى أن هذه المشاكل في حدّ ذاتها كانت موجودة قبل العولمة بزمن طويل، وإن أسبابها الاقتصادية أو القانونية أو الحكومية معروفة سلفاً كما أوضحنا، فإن نسبة مئوية مرتفعة منها، ناشئة من القوانين الوضعية الكابتة التي قننها الغرب، وسارت عليها كافة حكومات العالم، والتي هي على خلاف قوانين الإسلام التي تفسح المجال لحرية العمل والتجارة بالشكل المفيد للمنتج والمستهلك، فإن نظام اقتصاده قائم على الأخلاق والعقل، والقسط والعدل.
العولمة وحقوق الإنسان الاقتصادية
مسألة: لقد قال الكثير من خبراء الاقتصاد مبشرين: بأن في ظل العولمة الجديدة، وتحرير قوى التنافس والتسابق، سيتم توجيه الموارد البشرية والمادية إلى المواقع الإنتاجية، أي: إلى ما هو معروف بالاتجاه الكفؤ للاقتصاد، ثم يترتب على ذلك تزايد مستمر في حركة الإنتاج وعلى الصعيد الدولي والعالمي بما يلبي حاجيات البشر بشكل أفضل وصورة أجمل.
هذا هو ما قاله خبراء الاقتصاد والعولمة الاقتصادية، لكن الذي حدث في ظل العولمة الغربية خارجاً هو عكس ذلك، فقد اتجه العالم نحو استقطاب شديد في الفقر المدقع، الذي اتسعت دائرته بصورة رهيبة، وراحت تلتهم بلهواتها الكثير من سكان المعمورة، فقد أصبح اليوم يعاني من الجوع ويحنّ للقمة الخبز ما يقرب من بليون إنسان، وأصبح بليونان آخران من الناس يعانون من سوء التغذية ويئنون من آلامها وآثارها.
هذا وقد اتجه القسم الآخر من العالم اليوم إلى تركيز شديد في الثروة وتكديس أعمى للأموال، وذلك على مستوى الدول ومستوى الأفراد معاً، وداخل الدولة الواحدة أيضاً، فإن ما يقرب من خُمس سكان العالم الذين يعيشون في أعلى البلدان دخلاً، وأكثرهم مورداً، يحصلون على ما يلي:
68% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
82% من صادرات العالم.
86% من الناتج الإجمالي.
74% من خطوط الهاتف في العالم.
بينما ما يقرب من خُمس السكان الذين يعيشون في أشد البلدان فقراً وأخفضهم دخلاً يحصلون على 1% فقط من الناتج الإجمالي العالمي.
هذا الفرق الطبقي الكبير يرجع لعدة عوامل أهمها هو ما يلي:
العامل الأول:
اندراج العولمة الغربية تحت هيمنة الأسواق وسيطرة السوق على عملية العولمة، واستغلالها لزيادة الربح مهما كان مصدره، من غير احتراز لما يعكسه ذلك من آثار جانبية على حقوق الإنسان وكرامته.
و في هذا المجال صدر تقرير التنمية البشرية المنتشر قبل عامين يقول: (إن الآثار الجائرة المترتبة على العولمة، التي توجهها الأسواق ويوجهها تحقيق الربح، أوسع وأعمق من البيانات المذكورة أعلاه والإحصاءات المزبورة آنفاً حيث إنها تمس جميع جوانب حياة الإنسان وتخدش كرامته).
هذا ويضيف التقرير قائلاً: (إن الرعاية التي تمثل قلب التنمية البشرية غير المرئي، مهددة بالإحباط والانهيار، وذلك لأن السوق العالمية التنافسية الموجودة الآن تفرض ضغوطاً على ما يلزم عمال الرعاية من وقت وموارد وحوافز، وهي أعمال بدونها لاينتعش الأفراد، ومن الممكن بل المحتّم أن ينهار التماسك الاجتماعي بانهيار الرعاية المطلوبة).
ثم إنّه مما لا شك فيه أن سوف تؤثر هذه الأوضاع المزرية، على تراكم القدرات الإنسانية للمجتمع وتكدسها التي تعتبر الآن أهم للتنمية من تراكم رأس المال وتكدّسه.
العامل الثاني:
سيطرة التطور التقني والفني على مجالات العمل والعمالة، وظهور الآلات المتطورة على الساحة، الموفّرة للوقت والجهد الإنساني، الأمر الذي دعا المشاريع العملاقة التي تطبق أساليب العمل الفني والتقنيات إلى إلغاء الوظائف أكثر من إيجادها، والى إجراء عمليات تصفية عمالية ـ إن صح التعبير‎ ـ وذلك باستمرار على نطاق واسع وفي مختلف الشركات العملاقة، ومعلوم أن هكذا تصفيات تؤدي إلى إلغاء كثير من الوظائف، وإلى خفض مدهش في عنصر العمل وتقليص الأيادي العاملة. مثلاً في أمريكا وقبل خمسة أعوام صدر عن منظمة العمل الدولية تقرير سنوي عن العمالة لعام واحد يقول: تم القضاء بالفعل على ما يقرب من مليوني وظيفة في قطاع الصناعات التحويلية، بينما كان قبل عشرين عاماً تقريباً يعمل بها مائة وعشرون ألف عامل، ولكن انخفض عددهم بعد عشر سنوات إلى عشرين ألف عامل فقط، مع إنهم كانوا ينتجون نفس القدر من المنتجات بلا زيادة ولا نقيصة.
ومن المعلوم: إن هذا التخفيض إذا لم يوفر أعمالا بديلة سوف يؤدي إلى نتائج غير محمودة، مثل حصول جيش من العاطلين، ومثل تخفيض أجور ومرتبات العمال والموظفين، ومثل تقلص الكثير من المزايا والحقوق التي كانوا يحصلون عليها من قبل، وغير ذلك.
العامل الثالث:
تضخم الأرباح لصالح أفراد معدودين، فإن الأرباح الحاصلة عن التقدم التقني الفني، كان في السابق يتقاسمها جميع العاملين في الاقتصاد القومي، مع اختلاف النسبة فيما بينهم، بينما الأرباح الحاصلة عن الثورة العلمية والقفزة الصناعية اليوم يتقاسمها عدد قليل جداً من الأفراد، وهم رجال الإدارة العليا، وحملة الأسهم، وعمّال المعرفة والتقنيات فقط.
ومن الطبيعي حينئذ أن ينتج ذلك زيادة مستمرة في طبقات ما تحت خط الفقر، وتهميش هذه الطبقات، وتركيز الثروة في أيدي طبقة قليلة من الناس.
ومن هنا اتضح أنه إذا كانت حقوق الإنسان السياسية والمدنية قد استفادت نسبياً من عصر العولمة الغربية ـ كما سبقت الإشارة إليه‎ ـ فإن حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية لم تأخذ نفس القدر من الاهتمام، بل أصبحت مهضومة بين عجلات الثروة والاقتصاد. نعم إن من حق الإنسان أن يتخلص من الفقر، ويتنعم بما أنعم الله تعالى عليه في الحياة، ويعيش وسط مجتمع متوازن، لا مجتمع طبقي متضارب، وفي أجواء سليمة يسودها العدل والقسط، لا أجواء سقيمة يتراقص فيها شبح الظلم والجور، ولذلك سوف تظل العدالة الاجتماعية وتوازن المجتمع قيمة من القيم، التي ينبغي للمجتمعات الدولية الاعتصام بها، فتوازن المجتمع والعدالة الاجتماعية أمر ضروري لإيجاد الاستقرار الحقيقي وإرساء الأمن، وهو أيضاً شرط أساسي لإقامة مجتمع متوازن ومتعادل.
وهذا كله متوفر في العولمة الإسلامية.
لا لملكية الدولة
مسألة: إن هناك شبهة اقتصادية تقول: إن كل تغيير في شكل ملكية وسائل الإنتاج لصالح الملكية الخاصة، تسبب زيادة البطالة، وهذا ليس أكثر من شبهة، إذ هو أمر غير ثابت، بل هو أمر غير صحيح، وذلك لأنه لو كان كذلك لما فشل النظام الاشتراكي والاقتصاد الشيوعي وأدّى إلى سقوط الاتحاد السوفيتي العملاق، الذي كان قد تربّع على ملكية الدولة والقطاع العام، وألغى الملكية الشخصية والقطاع الخاص، فإن الخبراء السياسيين والاقتصاديين يؤكدون على أن من أهم عوامل سقوط الاتحاد السوفيتي وفشله في كل المجالات هو تغيير الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى صالح الملكية العامة، وكان فشل الاقتصاد الشيوعي والنظام الاشتراكي، وسقوط الاتحاد السوفيتي، تجربة ميدانية حيّة اتضح من خلالها حكمة الإسلام في تقريره الملكية الشخصية، واحترامه لها أيما احترام.
إذن: فلو كان نظام الملكية الشخصية والقطاع الخاص مما يزيد في البطالة وضعف الإنتاج وقلة الإبداع، لأنكره الإسلام ولم يقرّه، ولتوجّه الاقتصاد الإسلامي إلى تشجيع القطاع العام وملكية الدولة ـ كما يسمى في العرف الحديث‎ ـ بدلاً من التأكيد على الحرية الاقتصادية واتجارية، واحترام الملكية الفردية والقطاع الخاص.
ومن جانب آخر نجد أن أي تغيير في ملكية وسائل الإنتاج من القطاع الخاص والملكية الشخصية، إلى القطاع العام وملكية الدولة، سيغير من قوى العمل ويؤثر في أساليب الإنتاج تأثيرا سلبيا لا محالة، علماً بأن قانون التغيير هذا لا يختص بالعولمة بقدر ما يختص بالظروف المحلية، والتغيرات الثقافية والإدارية، والسياسية والاجتماعية المرافقة له، بل إنا نجد أن ارتباط الاقتصاد الإسلامي بالسوق العالمية، أو بأي نوع من أنواع الاقتصادات الأخرى، سيوجب النمو والازدهار وعدم البطالة.
كما إن الدعم الحركي للسوق، مع قطع النظر عن الدعم المالي والنقدي، أو السلعي والفني، الذي يفرضه السوق المتحرك للعناصر الاقتصادية المرتبطة به، فإن الدعم هذا يعيد للسوق حيويته من جديد، وهو الذي رأيناه قد حدث بالفعل عندما انهار اقتصاد كل من الدول الثلاث: كوريا وماليزيا وإندونيسيا، فإن اليابان وكذلك أوروبا دعمتها بسرعة، فاستعادت تلك الأسواق حركتها ونشاطها ووقف اقتصادها للمرة الثانية منتصباً على قدميه.
التخلف الاقتصادي لماذا؟
مسألة: إن التخلف الاقتصادي هو بالدرجة الأولى نتيجة الإعراض عن منهج السماء في الاقتصاد، ومنه يعرف أن ما يقال عن العولمة: بأنها تسبب التخلف الاقتصادي في المجتمع والأمة، فليس هو بصحيح، وان كانت العولمة لاتخلو من تأثير لها فيه، وذلك لأن حلقات الترابط بين صناعة الحديد مثلاً وصناعة النفط لو وجدا معاً في بلد من البلدان فإنها ترتبط بالسوق العالمية، ولا تقتصر على الدول الإسلامية وغيرها من الدول الأخرى.
بل يمكن القول: بأن التخلف الاقتصادي المشهود ليس هو بعد الإعراض عن منهج السماء إلاّ نتيجة صراع الدول الصناعية الكبرى لاحتواء الأسواق العالمية، وذلك قبل أن توجد العولمة، فإنها حصيلة المؤتمرات الثنائية والعامة، والمؤسسات التجارية المتولدة من تلك المؤتمرات، مثل المنظمة العالمية للتجارة، وغيرها من المنظمات الاقتصادية الأخرى وذلك مع قطع النظر عن الأبعاد الإنسانية والأخلاقية فيها.
كما انه يمكن أن ينسب أي تخلف اقتصادي ملموس في الأوساط العالمية مضافا إلى ما ذكر من: الإعراض عن منهج السماء، وصراع الدول لاحتواء الأسواق، إلى سوء الإدارة الاقتصادية وتردّيها، أو فقدان المواد الأولية وقلتها، إذ هي من مقومات حيوية الاقتصاد، ونموّه وازدهاره كما هو واضح.
أسباب و مسبّبات
مسألة: هناك شبهة اقتصادية أخرى تقول: إن العولمة تكون سبباً في تصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة إلى البلدان النامية، فهو ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ أمر يرتبط بفقدان الرقابة الصناعية الصحيحة، وضعف القانون الصناعي الدولي وعدم اشتماله إلى مبادئ إسلامية إنسانية مثل (مبدأ لا ضرر ولا ضرار)، ولا ربط له بالعولمة في الجملة، فإن تلك الدول الداعية للعولمة أيضاً لا تخلو من تلوث بنفسها.
مثلاً: جنون البقر في أوروبا الذي أدى إلى الخلل الاقتصادي حيث تم إتلاف الملايين من البقر المحتمل إصابته بهذا المرض.
ومثل: تلوث الدجاج في هونغ كونغ الذي أدى أيضاً إلى إتلاف الملايين من الدجاج المصاب وقد تم إتلافها بأمر من الرقابة الصناعية والإنتاجية في كل من البلدين.
وعليه: فإن التلوث ذاته هو أحد إفرازات التطور الصناعي في كل بلد من البلدان، ولايتوقف على العولمة الحديثة، أو العولمة الاقتصادية، وان كان لا يبعد تأثير سقم العولمة كالعولمة الغربية، وصحتها كالعولمة الإسلامية، في ازدياد حجم التلوث وقلته.
تراجع أهمية النفط
ومن الشبهات الأخرى: تراجع أهمية النفط وهبوط أسعاره، فهل هذا نتيجة العولمة الاقتصادية؟
إن تراجع أهمية النفط الإسلامي وهبوط أسعاره هو أمر غير خاضع 100% للعولمة، وإنما هو خاضع بعض الشيء لقانون العرض والطلب ولمؤامرات عالمية ضد البلاد الإسلامية، ومن الواضح لدى الجميع: إن العرض كان ولا يزال أكثر بكثير من الطلب الموجود على الساحة العالمية، وتبعاً لكثرة العرض المؤدية إلى تراجع أهمية النفط الإسلامي، تراجع سعر النفط وتدني قيمته أيضاً، كما أشارت إلى ذلك منظمة الأوبك، التي هي أكبر مؤسسة نفطية تضم الدول الإسلامية وغيرها بما فيها الدول الداعية للعولمة، حيث قد اعترضت على تدني سعر النفط إلى مستويات بسيطة، واعترفت بأنه لم يعد للنفط أي سلطة نافذة كالسابق، وذلك منذ سنين حرب الخليج الأولى، يعني: قبل مجيء العولمة إلى الساحة، واطرداها على الألسن.
كما ينسب هذا التراجع في الأهمية والقيمة من جانب آخر إلى توفر وسائل الطاقة البديلة للنفط في العالم، كالطاقة المستفادة من الشمس أو الماء، أو ما أشبه ذلك.
ارتفاع فواتير الغذاء وما أشبه
ومن الشبهات المطروحة أيضاً ما يشاهد من ارتفاع فواتير الغذاء والمواد الأولية والصناعات الثقيلة، لكنه أيضاً لا يرجع كلّه إلى العولمة، وذلك لأن هذا الارتفاع إنما هو بإزاء ارتفاع الدخل الفردي، وما ذلك إلاّ ضريبة من ضرائب التطور، وحاجة من حاجيات الدولة للنمو الصناعي والتقني، والتي تمثل بدورها حاجة الإنسان في تلك الدولة التي يعيش فيها.
هذا ولا يخفى: إن فواتير الغذاء مرتفعة أساساً في دول العولمة نفسها أيضاً وذلك من قبل مجيء العولمة.
وعليه: فإن الدعوة لأي وحدة اقتصادية، لا يمكن أن تقوم إلاّ إذا توازن الدخل القومي مع مستويات المعيشة والمصروف اليومي، فعدم التوازن المخل بالحياة اليومية، والمشاكل الناجمة عنه، إنما ظهرت من الإعراض عن ذكر الله تعالى، ومن عدم تطبيق قوانين السماء في الاقتصاد، قال سبحانه: ((ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً)) [2].
ولا بأس بالإشارة هنا إلى أن الشركات العملاقة متعددة الجنسيات ودول العولمة نفسها، تنسب ارتفاع الفواتير هذه إلى ارتفاع سعر النفط، المتعمد من قبل منظمة الأوبك، وقد حدث هذا الارتفاع لأول مرّة قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً، وذلك عندما تمّ رفع سعر البرميل الواحد إلى ضعفين مرة واحدة، ولكن هذه النسبة غير صحيحة، فإن النفط الخام لا يباع اليوم بقيمته الواقعية بل هو دون ذلك بكثير مقابل التضخم الموجود، والارتفاع الملحوظ.
العولمة الاقتصادية والخوف منها
مسألة: ليست العولمة الاقتصادية الغربية وتبعاتها السيئة أصبحت مخيفة للمسلمين فقط، بل حيث إنّ الطبيعة الماديّة البحتة، المنطوية عليها تيار العولمة الاقتصادية كثيرة المخاوف، أخذ الخوف منها يتسرب في أوساط المثقفين والمفكرين المستقبليين حتى من نفس أمريكا أيضاً.
ومن الواضح إن الظالم يصبح ضحيّة لطيشه على طول المدة، إذ لا شك في أن هذه القوّة بهذا الشكل تدمّر القيم الإنسانية، والمثل الأخلاقية، وتحيي الأنانيات والعداوات، وتؤدي إلى التنكر وهزيمة الذات أمام القوة التي يطلقها هذا التيّار.
وقد ظهر للعيان كيف أنّ هذا التيار المعارض أخذ ينمو حتى في داخل أمريكا وأوروبا واليابان، وهو يتربص بالعولمة الاقتصادية الغربية الفرصة المناسبة للقضاء عليها.
نعم في الحديث الشريف: «يوم المظلوم على الظالم أشدّ من يوم الظالم على المظلوم»[3]، كما قرأنا ذلك في التاريخ البعيد، ورأيناه في العهد القريب.
ومما رأيناه في عصرنا القريب: تحطم الاتحاد السوفيتي وسقوطه مع أنها كانت دولة كبرى، وقوّة عظمى، وهذا هو نتيجة الظلم ومخالفة الفطرة الإنسانية.
ومما قرأناه في التاريخ البعيد: أنه كيف خسف الله بقارون وأمواله، وأغرق فرعون ورجاله؟ وكيف أن بني اُميّة اُبيدوا وقُتلوا؟ وكيف نُبشت قبورهم وأحرقت عظامهم وذري رمادها في الهواء؟ وكذلك يكون مصير الظالمين.
من تبعات العولمة الاقتصادية الغربية
مسألة: لقد أنتجت العولمة الغربية محيطاً خانقاً وبيئة ضاغطة، على إثر السياسات المتخذة والبرامج المفروضة من قِبل ما يسمونه بمؤسسات العولمة الدولية، مثل المنظمة العالمية للتجارة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومؤسسات مالية دولية أخرى، كهيئة المعونة الأمريكية وغيرها مما أصبحت مسؤولية الدولة في البلدان الإسلامية مجرد التطبيق الحرفي لما تفرضه تلك المؤسسات، وتتطلبه الشركات متعددة الجنسيات حتى تستثمر في البلدان الإسلامية.
إن الدولة في بلدان العالم الثالث أصبحت تعمل اليوم مجرد إدارة للأزمة الاقتصادية، لأن إدارة الأزمة الاقتصادية في منطق الرأسمالية، يعني: تجنب تصاعد تراكم الفائض المتنامي للرأسمال غير المستثمر، أو ما يمكن استثماره لتوسعة النظام الإنتاجي، مما يكشف عن أن سياسات العولمة الاقتصادية: من تحرير التبادل التجاري، والتدفقات العالمية لرأس المال، والنسب العالية للفوائد، وتنامي الديون الخارجية، ليست إلا أموراً ابتكرها النظام الرأسمالي العالمي، لصيانة هذا النظام من الفشل حتى وإن كان ذلك على حساب البلدان النامية وحرمان شعوبها الفقيرة.
ولا بأس هنا بذكر أهم التبعات التي تحصل عليها البلدان الاسلامية من وراء العولمة كما ذكرها بعض الخبراء وهى كما يلي:
التبعة الأولى:
إن العولمة الغربية تغير ثقافة الاستهلاك وتبدل نمطها في البلدان الإسلامية إلى نمط الاستهلاك في البلدان الغربية، وإلى كثرة البذخ غير اللازم، وهو يؤدي إلى استنزاف الموارد المالية في البلدان الإسلامية، مضافاً إلى تزييف وجهة الطلب وخاصة عند الطبقات الغنية، التي تتميز عن غيرها من طبقات المجتمع بهوايتها لاقتناء كل ما هو مستورد، ورغبتها في جلب كل ما هو غالي الثمن، وهذه الصفة عند هذه الفئة الاجتماعية، شائعة بين الرجال والنساء، ورائجة بين الصغار والكبار، بلا فرق بين شراء آخر الأزياء من الملابس المصنوعة في الغرب، وبين اقتناء أحدث أنواع السيارات، وأجهزة الاتصال، وأجهزة الحاسوب، وأدوات التسلية، مضافاً إلى تزيين أركان المنزل وأرجاء البيت بالتحفيات الكمالية الغالية الثمن، واقتناء كل فرد من أفراد الأسرة سيارة وجهاز حاسوب وجهاز تلفزيون وهاتف وأجهزة تسلية أخرى من دون حاجة إليها وبلا أي مبرر.
التبعة الثانية:
إن العولمة الغربية تسبب تضاؤل أهمية النفط الإسلامي، كما نراه اليوم متضائلاً ويباع دون ثمنه الواقعي، ثم يسترجعون هذا القليل ثمناً للأسلحة التي تباع على المسلمين ليقتل بعضهم بعضاً، مضافاً إلى محاولتهم اكتشاف بدائل للنفط بسبب التقدم العلمي والتطور الصناعي، وقد أشرنا إلى جوانب من البحث في كتاب (ماذا بعد النفط؟).
التبعة الثالثة:
إن العولمة الغربية تؤدي إلى ركود الصناعات التحويلية والتبديلية في البلدان الإسلامية، وذلك لاعتمادها على السياسات الحمائية لفترة طويلة من الزمن، فتفتقد بسببه القدرة على المنافسة.
التبعة الرابعة:
إن العولمة الغربية تنتج ارتفاع فاتورة الغذاء المستورد للبلدان الاسلامية، وذلك لتحرير تجارة المواد الغذائية من سياسات الدعم للصادرات في دول المركز.
التبعة الخامسة:
إن العولمة الغربية تسبّب تلوث البيئة في البلدان الإسلامية، وذلك بتصدير الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة من المركز إلى بلدان العالم الثالث، وبتصدير الصناعات الطالبة كثافة عالية في اليد العاملة مكان الكثافة العالية لرأس المال.
التبعة السادسة:
إن العولمة تسبب فقدان الترابط بين قطاعات الاقتصاد الوطني، وهو يؤدي إلى التخلف الاقتصادي في البلدان الإسلامية.
مثلاً: يصبح ارتباط قطاع الفحم الحجري في بلد ما بالمركز، أقوى من ارتباطه بقطاع النفط في نفس البلد، وهو نفسه يكون ارتباطه بالسوق العالمية للنفط بالمراكز أكثر من ارتباطه بقطاع الزراعة المحلي في البلد ذاته، وهكذا في غيرها.
التبعة السابعة:
إن العولمة تسبب في بعض البلدان الإسلامية كثرة البطالة وتزايدها، لأن تغيير ملكية وسائل الإنتاج إلى الملكية الخاصة على الطريقة الغربية، ينتج عدم توازن العرض والطلب، بازدياد الأول وقلة الثاني.
التبعة الثامنة:
إن العولمة تقلب قسما كبيراً من المنتجين المباشرين في البلدان الإسلامية إلى العامل المأجور وبعبارة واضحة تجعل دخلهم يعتمد على السوق فقط، من دون اتخاذ الإجراءات التأمينية العرفية، والاجتماعية القانونية، التي تضمن للفرد حقّاً مالياً في دخل ما، وذلك بغض النظر عن اعتبارات السوق وتقلباتها.
التبعة التاسعة:
من الواضح إن تزايد عدد السكان سريع في البلدان الإسلامية وذلك لتحريض نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) على كثرة التناسل والتوالد، وهو من أهم أسباب قوة الأمة الإسلامية، وقد أكد الإسلام أيضاً على الاهتمام بتربية الناشئة وتثقيفهم بالثقافة القرآنية الغنية، ولكنها مفقودة اليوم بين المسلمين فيلزم إرجاعها، وفي نظام العولمة الغربية يظل هذا الحجم الكبير من الكتل البشرية يعمل ويكدح، وينتج ويستهلك، لكن في ظل شروط رأسمالية كلاسيكية أو شبه كلاسيكية محروماً من المزايا الإسلامية التي أمر الإسلام بها لتضمين سعادته وترفيه عيشه.
التبعة العاشرة:
من المؤسف أن أنماط الإنتاج في البلدان الإسلامية المعاصرة لم تكن وفق الاقتصاد الإسلامي، وليس لها نمط موحد يعبّر عن الاقتصاد الذي جاء به القرآن الكريم والروايات الشريفة الذي هو أفضل اقتصاد عرفه العالم، حيث إنه يجمع بين النمو والازدهار وبين العدل والقسط، بل لها أنماط متعددة، مثل نمط الإنتاج الرأسمالي، ونمط الإنتاج ما قبل الرأسمالي ونمط الإنتاج غير الرأسمالي، وفي بعضها نمط الإنتاج شبه الاشتراكي، أو شبه الشيوعي، فإن العولمة الاقتصادية الغربية تهدف إلى تصفية كل أنماط الإنتاج غير الرأسمالية، وتصفية جميع شروطها، حتى يسود نمط الإنتاج الرأسمالي الغربي وحده، وتسود شروطه وحدها وإن كان على حساب الآخرين.
التسلل من نقاط الضعف
مسألة: يلزم معرفة نقاط ضعف المستعمرين، فمثلاً إن سيطرة أمريكا على العالم في نظامها الجديد، وموقعها القوي في الاقتصاد العالمي ليس مطلقاً، بل هناك نقاط ضعف يمكن التسلل منه ومواجهتها بحكمة، وذلك لأن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب.
مثلاً: إن مجمل اقتصاد أوروبا الموحدة ـ ‎على ما مر ـ أضخم من الاقتصاد الأمريكي، وشبه ذلك يكون اقتصاد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا بصورة عامة، مضافاً الى أن مستقبل الاقتصاد الأمريكي غير مضمون، وذلك لأنه مازال يواجه مشاكل قاسية وصعبة قد تهدد نموه وازدهاره في المتقبل، ويمكن أن نعد من جملة تلك المشاكل: العجز في الميزان التجاري، وخصوصاً بالنسبة الى بلدان شرق آسيا الفائق على مائة وستين مليار دولار في السنة.
وكذلك المعاناة من ديون دولية متراكمة تزيد الألف مليار دولار.
وهناك مشاكل أخرى عديدة تنذر سلامة الاقتصاد الامريكي بالخطر، ومن أهمها: تصادم النظام الرأسمالي الموجود في الغرب مع الفطرة السليمة، والعقلانية الانسانية، لأنها تسخّر الإنسان في خدمتها، بينما النظام الاقتصادي الإسلامي يسخّر كل شيء لخدمة الإنسان مع الحفاظ على الملكية الفردية.
إن العجز في الميزان التجاري الأمريكي، كان من أسباب نمو الاقتصاد الصيني وازدهاره، كما وأدى إلى توسع الاستثمارات الأجنبية في أمريكا من قبيل الصين واليابان، وقد غزت بضائعهما الأسواق الأمريكية، وكذلك أدى الى شراء اليابان كثيراً من المؤسسات الصناعية والاقتصادية والخدماتية، والعقارات وغيرها من قطاعات الاقتصاد الأمريكي، مضافاً إلى ما كان لليابان من مبالغ كبيرة تتألف من ملايين الدولارات على أمريكا، وديون خارجية أخرى يتجاوز مجموعها عن ألف مليار دولار، كانت أمريكا مدينة بها لدول أخرى إضافة إلى اليابان، وكل هذه المشاكل الاقتصادية الصعبة تشكل خطراً مستقبلياً على سلامة الاقتصاد الأمريكي، فإنه وإن كان لأمريكا إمكان تحمل هذه الديون الباهضة نظراً إلى إجمالي الناتج القومي الأمريكي، الذي يقرب من أربعة آلاف مليون دولار، إلا أن هذه الديون وتلك المشاكل الخانقة سوف تبقى عائقاً للنمو السريع والازدهار القريب.
ومن هذا وأمثاله يظهر أن السيطرة الأمريكية على النظام الجديد، وموقعها البارز في الاقتصاد العالمي ليست حتمية غير قابلة للنفوذ، فيمكن مقابلته بالأساليب الصحيحة.
أمريكا ومقاليد العولمة الجديدة
مسألة: يلزم أن تعي الأمة الإسلامية ما يدور حولها حتى لا تهجم عليها اللوابس، ففي الحديث الشريف: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»[4].
وفي هذا الزمان أضحت مقاليد أبواب العولمة وأدواتها الرئيسية بيد الغرب وأمريكا بالذات، وهذه الأدوات والمقاليد تتخذ وسيلة لبلوغ الأهداف، وحيث إن منطق الاستعمار: الهدف يبرر الوسيلة، فلا تورع عن أن تكون الوسيلة غير إنسانية ولا أخلاقية، ومن هذا المنطلق فإن الأدوات قد تكون عسكرية وسياسية تارة، واقتصادية وتقنية تارةً أخرى، وفكرية وثقافية ثالثة، بل وقد تكون عبارة عن مراكز البحث والتحقيق أحياناً، وربما مراكز الخدمات الاجتماعية، فإن معظم مراكز البحث تكون مركزة وموجهة إلى بحث الأفضل، واختيار الأمثل، في هذا الاتجاه، ولا يخفى ما لهذا من الآثار الكبيرة، والنتائج المهمة.
لكني مع ذلك أشكك في بقاء هذا النظام لمدة طويلة ولو نسبيا، وقد ذكرت هذا المعنى في كتاب أسميته: (الغرب يتغير) وذكرت فيه: بأن كل شيء يكون خلاف الفطرة والعقلانية لا ينتهي إلى نتيجة محمودة، وأن الخزي والزوال في انتظاره، رغم ما يكون له من جولة، كما في الحديث الشريف: «للحق دولة وللباطل جولة».
وقد ذكرت في كتاب سابق[5] كتبته حول مصير الاتحاد السوفيتي ونظامه الشيوعي الاشتراكي الذي هو خلاف الفطرة والعقلانية وقلت فيه آنذاك: بأنه في طريقه إلى الخزي العاجل والسقوط القريب.
وكان كذلك، لأن الولادة كانت ولادة على خلاف الفطرة والعقلانية، وكلما كان الشيء كذلك فإن الموت المحتوم بانتظاره، وإن مصيره إلى الزوال، ولا يبقى منه إلا الذكر السيئ طوال التاريخ، كما بقي الذكر السيئ للحجاج والسفاح، ومعاوية ويزيد، وابن مرجانة وبني مروان، على طول التاريخ، وذلك منذ ألف وأربعمائة سنة وحتى هذا اليوم، وإلى ملايين الأعوام والسنين، وسينتهي مصيرهم في يوم القيامة إلى ((نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة)) [6] نعوذ بالله منها.
العولمة الغربية ليست قدراً محتوماً
مسألة: إن العولمة الغربية رغم طابعها الكوني وما توظّفه من طاقات وتوسعها المستمر، ليست قدراً محتوماً تُحدّد مصير العالم الثالث، أو مصير المسلمين فيما يجري سلفاً، بل إن هذا المصير مرتبط إلى حدّ كبير بما سنعمل نحن المسلمين، وكيف سنواجه التحديّات، ولا يفيدنا تجاهل ما يجري حولنا، أو الاكتفاء برفضه فقط، بل علينا أن نتمسك بالعولمة الإسلامية ومقوماتها ابتداءً من الإعلام وانتهاءً بالعمل الخارجي فنحافظ على قيمنا ومبادئنا ويمكننا هداية الآخرين إلى ذلك أيضاً.
مضافاً إلى أنه ليس الأمر في مستقبل العولمة رجماً بالغيب، ولا قدراً حتمياً لا نتمكن من تغييره أو زيادته أو نقيصته، فلابد من محاولة فهم واقع العولمة الراهن، ورصد اتجاهات تطورها المعاصر، لنستطيع بعد ذلك تتبع الاتجاهات الأكبر احتمالاً للتحكم في مستقبلها، وذلك بقدر جدّنا وجهدنا، وبقدر سعينا ومتابعتنا، لكنّ ذلك يحتاج إلى الوعي والإعلام في كيفية التعامل مع العولمة.
مثلاً المرأة المسلمة عليها أن تثقف نفسها وتتطور علمياً وعملياً وتصدياً مع المحافظة على كرامتها وعزها وشرفها فلا تتبع الأسلوب الغربي الذي نال من كرامتها. كما عليها أن تسعى في هداية المرأة الغربية إلى خيرها وصلاحها.
نعم السفر بوسائل النقل الحديثة، والاستضاءة بالمصباح الكهربائي، والاستفادة من الأجهزة الكهربائية وما أشبه ذلك، فلا بأس به ـ إلا إذا اقتضى الأمر في الإنقاذ إلى نبذها كما فعل غاندي بالبضائع الأجنبية، على ما ذكرناه في (الفقه: طريق النجاة) ـ لكن ذلك ليس هو معنى العولمة المطلقة، بل معنى ذلك هو: الأخذ بقدر الاحتياج منها والاستفادة من صالحها ونبذ طالحها وفاسدها.
وأما بالنسبة إلى تناول ما هو محظور في ديننا مما يصاحب العولمة، فيجب علينا الامتناع منه، والإمساك عنه، ومناهضته بشكل يؤدي إلى هداية متناوليها إلى الصواب، وترك ما اعتادوا على تناوله من المضرّات.
وهكذا بالنسبة إلى المحرمات الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية كالزنا واللواط والمساحقة والاستمناء ونوادي العراة وما أشبه مما تترتب على العولمة الغربية، فاللازم اجتنابها والسعي لإنقاذ الآخرين من مساوئها.
والخلاصة: إنه يجب علينا الأخذ بمحاسن العولمة المعاصرة إن كانت فيها محاسن، وترك بل ومناهضة ما هو سيئ فيها، ومن المعلوم: أن اكثر مكوّنات العولمة ارتباطاً بالبنية التكوينية لعالمنا المعاصر، هو: ذاك التقدّم المتسارع في تقوية المعلومات، التي شكلت برمّتها حجم التدفق الاستثماري للسوق المحلية، ومن الواضح: أن الإنسان إذا لم يشتر من السوق لا يكون للسوق محل في تلك البلاد، ومعه فلا يكون العالم رهينة في قبضة جماعة من كبار المضاربين والسياسيين الذين يتاجرون بالعملات والأوراق المالية، وبالسياسة الخاصة، حتى توجب اندراجنا تحت المظلة الغربية مثلاً.
ويلزم لتصدي مثل هذه الأمور: أن تتمتع بلادنا بالحرية السياسية والتعددية الحزبية والمؤسسات الدستورية وشورى الفقهاء المراجع واتخاذ سياسة السلم واللاعنف وما أشبه من مقومات التقدم والبناء.

الغرب وتآمره على المسلمين

أجل إنه بالإضافة إلى كل تلك المساوئ التي احتوت عليه العولمة الغربية، سواء الاقتصادية أم السياسية أو الثقافية، فقد بقي المستعمرون يحيكون على طول الخط المؤامرات ضد المسلمين مطلقاً، وضد بلادهم ومنطقتهم خصوصاً، ولذلك زرعوا إسرائيل في منطقتهم وفي وسط بلادهم، كبؤرة للفتنة والفساد، ومركز للمؤامرات والمخابرات، وقد صرّح أحد الرؤساء الأمريكيين قائلاً:

إن لأمريكا مصلحة خاصة ليس في إسرائيل فقط، بل في التعاون المشترك بين بلدينا في المنطقة، وأضاف قائلاً: ونحن نتفهم ونؤيد بحزم حاجة إسرائيل إلى الاحتفاظ بالتفوق العسكري النوعي على خصومها العرب، ولذلك ساعدوا إسرائيل مادياً وفنياً في أن تتفوّق عسكرياً على كل المسلمين العرب في المنطقة، فهي تملك قنابل ذريّة ونووية، وصواريخ بعيدة المدى، وأسلحة الدمار الشامل، وغير ذلك مما لم يملكه أحد من المسلمين العرب في الدول المجاورة.

وفي كلام آخر قاله الرئيس الأمريكي: إنّه يلزم إقامة لجنة أمريكية إسرائيلية مشتركة في ميدان التقنيات وصنائع القرن الحادي والعشرين.

ومن الواضح إنّ ذلك يكون على حساب المسلمين.

هذا مضافاً إلى ما تقوم به الولايات المتحدة من مناورات عسكرية مشتركة مع إسرائيل، وما تقدمه من أسلحة متطورة لها، وفنون عسكرية إلى جيشها، وما تمنحها من مليارات الدولارات مساعدة مالية من دون عوض وبلا مقابل، وما تدعمها به من الوقوف إلى جنبها، وتأييد إرهابها وحرب الإبادة الجماعية التي شنّتها ضد الفلسطينيين، وعضدها في سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها في أراضيهم، واستخدام حقّ الفيتو في صالحها، كل ذلك والمسلمون لازالوا يحتفظون بنزاعاتهم الداخلية، ومصالحة بعضهم مع إسرائيل متناسين قوله تعالى:

((يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين % فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين)) [1].

المرأة في العولمة الغربية

مسألة: العولمة الغربية، حطّت من شأن المرأة، وأسقطت قدرها، وجعلتها جسداً مادياً بحتاً، ودمية شهوانية محضاً، يستغلها أصحاب المتاجر والمعارض، في الإعلانات وفي دور عرض الأزياء، ويستثمرها أصحاب الأغراض والأطماع في مسابقات الجمال، وفي أفلام المسارح والسينما، وغير ذلك مما أنزل الغرب وجعله غير صالح لقيادة العالم في مقابل القيادة الإسلامية الواقعية العادلة.

والإحصاءات العالمية تبين مدى الاستهانة بالمرأة وسوقها إلى مستويات منحطة في ظل العولمة الغربية:

قالوا: إن لندن تعتبر من أكثر المدن الأوروبية التي تتعرض النساء فيها إلى العنف الجنسي الذي تصل نسبته إلى 24 اعتداءً لكل مائة ألف شخص، وهي متقدمة على باريس ونسبتها عشرون، وبرلين ونسبتها 13. 6، وروما ونسبتها 6. 3.

وفي أمريكا تصل إلى أمريكية واحدة من بين سبع أمريكيات قد تعرضت للاغتصاب أو التحرش في إحدى مراحل الحياة.

وإن مجموع الإيطاليات اللواتي تعرضن لعمليات تحرش ومضايقة جنسية يصل إلى تسعة ملايين إيطالية.

وفي خلال الثمانينات عرفت تجارة الجنس في أوروبا تطوراً وانتشاراً خطيراً، حيث أصبحت النساء مواد للتفاوض والاستثمار في صناعة بلا حدود، فقدرت الشرطة عدد بنات الليل في بلجيكا لعام 1980 بأربعة عشر ألف امرأة، ويقدر عدد البغايا في هولندا بعشرين ألف امرأة.

كما تفيد أرقام منظمة الصحة العالمية إلى أن خمسمائة ألف امرأة قد وصلن إلى دول الاتحاد الأوروبي في نهاية 1995م عبر المتاجرة بهن، وقدر المسؤولون الأمريكيون في مؤتمر (بكين 5) عدد تلك النساء اللواتي دخلن إلى الولايات المتحدة بخمسين ألف امرأة[2].

العولمة الغربية وسلبياتها

مسألة: إن من أهم ما يميز نظام العولمة الغربية: تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي الغربي في العالم، وهذا النظام تحكمه سلبيات كثيرة أهمها كالتالي:

1: يحكم هذا النظام قانون تضخيم الأرباح ولو على حساب أرواح جياع الملايين من الناس.

2: ويحكمه أيضاً نزعة الشركات متعددة الجنسيات، ونزعة الشركات المحلية منها أيضاً.

وهنا وقبل الانتقال إلى المميزات الأخرى لا بأس بالإشارة إلى أنه لا يختلف كلا النظامين: الاشتراكي والرأسمالي، اختلافاً جوهرياً بالنسبة إلى مسألة تحكيم النظام الاقتصادي في العالم ومساوئه، وإن كان هناك اختلاف في بعض المسائل، فإن هذه الأنظمة تفضل المصلحة الشخصية سواء مصلحة الفرد أو الجهة الحاكمة على المصلحة العامة للعمال والمستخدمين وسائر الناس.

لكن يفترق النظام الاقتصادي الإسلامي عن هذين النظامين الاشتراكي والرأسمالي في مسألة عدم الإضرار بالآخرين وعدم المراباة وما أشبه، وهذه من مفاخر النظام الاقتصادي في الإسلام.

3: ويحكم هذا النظام الجديد أو عولمة النظام الأمريكي أيضاً: العلمانية التي لا تخضع للشرائع الإلهية، ولا تلتزم بأحكام دينية، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية، وكذلك الإحصائية والاجتماعية هي التي تحكم العولمة الغربية وترسم لها خطوطها العريضة والعامة حتى وان كان فيها ضرر على مجموعات كبيرة من الناس.

وبعبارة أخرى: إن نظريات العلماء وآراء المتخصصين الذين يبحثون على الربح الأكثر من أي طريق حصل، هو الذي يحكم النظام الجديد الغربي، وليس الفقهاء ومراجع الدين والشرائع السماوية.

وكيف كان: فيمكن القول بأن العولمة الغربية لم تأت بشيء جديد، إذ الخطوط العريضة للاقتصاد العالمي الحديث، أو التجارة العالمية الجديدة، واضحة المعالم لدى الاقتصاديين المتخصصين منذ أمد بعيد، غير أنه ومن خلال الصراع الأمريكي مع أقطاب العالم في الآونة الأخيرة الدائر حول عولمة الاقتصاد، تبلور الاقتصاد الجديد أكثر من ذي قبل لدى الكثير من الكتّاب والصحفيين.

مثلاً: صراع أمريكا مع اليابان وذلك حول ميزان المدفوعات، وتصدير السلع، وما أشبه ذلك.

وصراعها مع أمريكا الجنوبية حول محاربة الكوكائين والهيروئين وتجار المخدرات وما أشبه ذلك.

وصراعها مع فرنسا حول الشرق الأوسط وأفريقيا والجزائر وحول الوضع في العراق، وغير ذلك.

وصراعها مع أوروبا حول الاستثمارات والمواد الغذائية وما أشبه ذلك.

وصراعها مع الصين حول التجارة الخارجية، وغير ذلك.

من نتائج العولمة الغربية

مسألة: إن من نتائج العولمة الغربية شيوع المحرمات، من تعاطي الخمرة، والسكر المتزايد، وانتشار أنواع المخدرات انتشاراً هائلاً، وازدياد أعداد المدمنين ازدياداً كبيراً، وكثرة استعمال السلاح، وقتل بعضهم البعض، وتردّي الأخلاق، وهبوط القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية، وسقوط كرامة الإنسان، وافتقاد عزه وشخصيته، وتفوق الماديات على القيم والمعنويات في كل الأمور، وهذا يوجب تبديل حياة المجتمع إلى حياة الغاب، وأمنه إلى الخوف، ودعته إلى القلق، وسكونه إلى الاضطراب، وسعادته إلى الشقاء، وجنته إلى الجحيم والنار، وهذا ما نجد مقدماته في مجتمعاتنا، وممهداته في أوساطنا، وآثاره في مناطقنا وبلادنا.

مضافاً إلى ذلك كله، مرافقة هذا الوضع المنذر بالدمار مع القوانين الظالمة والدساتير الجائرة التي أخذت تزداد وتتوسع في البلاد وبين العباد، ومع ما ذكره المحققون من النتائج السيئة للعولمة الغربية، وما هي من الواقع ببعيد، بل هي نتيجة تلك الأمور وآثارها التي تقتضيه القواعد العلمية والتجريبية لها، إذ التوغل في الماديات تسلب راحة الإنسان وتفقده سعادته، فاللازم السعي لنشر ثقافة العولمة الإسلامية التي تجمع بين الماديات والمعنويات، وبين سعادة الدنيا والآخرة، وتبتني على أسس وقواعد فطرية شرعية، مثل قانون ((فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)) [3].

من سيئات العولمة الغربية

مسألة: هناك سيئات للعولمة الغربية ينبغي الالتفات إليها، فإن هناك تحت نظام العولمة الغربية في هذا اليوم، ما يقرب من ثلاثة مليارات ونصف المليار من سكان العالم لا يحصل إلا على 6% فقط من الدخل العالمي، فيما يحصل الملياران ونصف المليار الآخر على 94% من الدخل العالمي، أي: إنّ أغلبية سكان العالم يعيشون بأقل من دولارين في اليوم الواحد، فيما ينعم الأغنياء من سكان أمريكا وكندا وأوروبا الغربية واليابان واستراليا على الدخل الأول، والحياة الأكثر راحةً، كما ذكرت ذلك بعض الجرائد العربية[4].

هذا بالإضافة إلى أنّ ملياراً كاملاً من البشر، لا يحصلون في اليوم الواحد الاّ على دولار أو أقل من دولار، وبعضهم يموتون جوعاً، ففي تقرير رسمي:

إن أربعين ألفاً يموتون يومياً نتيجة الجوع والمرض.

وإن ما يقرب من مليار إنسان يعانون من سوء التغذية.

وإن حوالي مليار ونصف المليار إنسان من دون مياه صالحة للشرب.

وإن مليار إنسان عاطل عن العمل.

وإن ثلاثمائة وخمسين ألف طفل يموت يومياً في أنحاء العالم.

بينما يُقدر ما تسيطر عليه شركات السلاح وأسواق المخدرات من المال مبلغاً قدره 90% من الاقتصاد العالمي.

وهذا التوزيع غير العادل الذي يكون على حساب الآخرين وسلب حقوقهم هو التوزيع الذي يخالفه الإسلام مخالفةً كبيرة، ويحاربه أشد محاربة، حتى إنه ورد في حديث شريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة»[5].

وورد عنه (صلى الله عليه وآله) ايضاً: «ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع»[6].

وعن أبي جعفر (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «من أفضل الأعمال عند الله إبراد الكباد الحارة، وإشباع الكباد الجائعة، والذي نفس محمد بيده لايؤمن بي عبد يبيت شبعاناً وأخوه أو قال جاره المسلم جائع»[7].

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: «ليس بالمؤمن الذي يشبع وجاره إلى جنبه جائع»[8].

وفي كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عامله عثمان بن حنيف: «أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داءً أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد»[9]

وعن فرات بن أحنف قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): «من بات شبعان وبحضرته مؤمن جائع طاو قال الله عز وجل: يا ملائكتي أشهدكم على هذا العبد أنني أمرته فعصاني وأطاع غيري وكلته إلى عمله وعزتي وجلالي لا غفرت له أبداً»[10].

إلى غير ذلك من الروايات التي تبين حق الجوار وتهدد كل من لا يهتم بالفقراء والجائعين بالعقاب والعذاب.

العولمة الغربية ناقصة

مسألة: العولمة الغربية ناقصة وقد فقدت واقعيتها وتأثيرها المطلوب بسبب ذلك، فهي بالإضافة إلى ما فيها من سوءات وسيئات، لم تستوعب جميع الميادين، ومثلها لا يتمكن من الاستقامة فضلاً عن البقاء والدوام، وذلك لأن العولمة الغربية راحت تهتمّ بناحية الجسد فقط: عيناً واُذناً، ولساناً وأنفاً، ويداً ورجلاً، وبطناً وفرجاً، وتعتني بالقضايا الخيالية والوهمية: من حب الجاه والمقام، والرئاسة والإمارة، وما أشبه ذلك، وتهمل ناحية الروح مطلقاً، فلا مكان فيها للاعتقاد بالله تعالى ورجاء ثوابه، كما لا مكان فيها لليوم الآخر وانتظار حسابه وجزائه، وكذا لا مكان فيها للفضائل الروحية، والمحاسن الخُلقية وما أشبه ذلك من قيم ومُثل.

وعليه: فالعولمة الغربية مولود ناقص، ومن نواقصها أنها تهتمّ فقط بالبلاد الغربية وعلى رأسها أمريكا، ولاتهتم بالعالم الثالث والدول الفقيرة اطلاقاً، بل تسعى للسيطرة عليهم وكسب الأرباح الأكثر عبرهم، ولذا نجد آلاف الناس يموتون جوعاً، وآلاف الناس لا يشبعون من الخبز، وآلاف الناس تطحنهم رحى الحروب، وتقضي على حياتهم حروب الإبادة الجماعية، كحرب الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك، والروس ضد مسلمي الشيشان، والصهاينة ضد مسلمي فلسطين، والأمريكان ضد مسلمي الأفغان، وغيرها من الحروب التي تلتهم حياة الإنسان المسلم بأسامي مختلفة، والسبب هي: المادية والنفعية التي تبتغيها الدول الغربية على الأغلب، حيث إنهم يصنعون السلاح المدمّر، ويبيعونه بأغلى الأثمان، ويسترجعون به ما دفعوه من ثمن البترول، ويختبرون قدرته الأدائية على رؤوس المسلمين وشعوب العالم الثالث، ويسحقون عبره كرامة الإنسان وحقوقه.

وأمّا المنظمات الدولية: كمنظمة حقوق الإنسان، وهيئة الأمم المتحدة، وما أشبه ذلك، والقوانين التّي قنّنت فيها لمطالبة حقوق الإنسان وحمايته، فهي عادة لا تتجاوز عالم الألفاظ، إذ لا ضمان لها ولا لتطبيقها في عالم الواقع والمجال العملي الخارجي إلا نادراً، مضافاً إلى أنها تراعي عادة مصالح الدول الكبرى لا مصلحة الإنسان بما هو إنسان.

الحدّ من انتقال القوة العاملة

مسألة: من نواقص العولمة المعاصرة بعدما حققت العديد من جوانبها التطبيقية في مختلف المجالات، هو ما يتعلق بانتقال قوة العمل، والايدي العاملة، فإن المراكز الرأسمالية والمؤسسات المالية الدولية التابعة لها، بينما تراها تمارس مختلف أنواع الضغوط لتأمين حرية انتقال السلع والخدمات والرساميل، تراها في نفس الوقت تضع مختلف القيود والعراقيل لمنع انتقال الأيادي العاملة، وصدّ هجرة قوة العمل، من الدول النامية إلى الدول المتقدمة، مع العلم بان القرنين الماضيين: حصلت فيها الهجرة وانتقال الأيدي العاملة بصورة أكثر، وذلك للحرية المتوفرة آنذاك وعدم توفرها اليوم.

و من الواضح: إن هجرة الأوربيين إلى نيوزلندا واستراليا وإلى الأمريكيتين وجنوب أفريقيا، وإلى الكثير من البلدان النامية آنذاك، قد ساهمت في الحيلولة دون حدوث تغييرات اجتماعية كبيرة في الدول الأوروبية الرأسمالية، وذلك بسبب البطالة المتفشية فيها، وانتشار الفقر والأمية والبؤس والمرض في تلك المرحلة مساهمة كبيرة وفاعلة.

والإسلام لم يمنع العامل بل أي شخص من الهجرة والتنقل، والسفر والإقامة في أي بلد شاء، حيث خلق الأرض للإنسان بما هو هو مهما كان لونه وعرقه وقوميته ولسانه، قال تعالى: ((خلق لكم ما في الأرض جميعاً)) [11].

بل قال سبحانه: ((اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [12].

وقال تعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)) [13].

وقال سبحانه: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [14].

وقال تعالى: ((أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ)) [15].

وقال سبحانه: ((اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) [16].

وقال عزوجل في الهجرة: ((أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)) [17].

وقال سبحانه: ((وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً)) [18].

تأطير الطاقات المطلقة

مسألة: إننا مع التطور الكبير في العلم، وتقلّص عوامل المسافة والزمن، وضرورة امتلاكنا لمقدراتنا في المجالات الحيوية، وذلك حسب ما يأمر به الإسلام من العولمة الصحيحة، وقد بلغنا درجة لا يمكن معها التغافل أو التهرب من ضرورة إدارة كل ما هو في حيطتنا: من سلامة البيئة، ومن قوة التجارة، ومن نظم أنشطة الإنتاج والاستهلاك، وتأطيرها لصالح الإنسان وكرامته الإنسانية والإسلامية، وقد انطلقت طاقات المعرفة والعلم، وهدرت عجلات التصنيع والفن بمختلف أشكالها، وظهرت الحاجة الملحة لتأطير هذه الطاقات المنطلقة في إطار خدمة الإنسانية كلها وفى خدمة كل الأجيال الموجودة والقادمة، حتى لاتنتصر هذه الطاقات المادية على حساب هزيمة الإنسان والإنسانية نفسها، أو لحساب جيل حاضر على حساب الأجيال الأخرى القادمة مع تمادي الزمن.

ويظهر من ذلك كله أن الحاجة إلى النظرة العالمية ملحّة حتى ونحن نتصرف محلياً، وإن كان البعض يرى هذه المعادلة بالعكس أي: بأن يكون التفكير محلياً والتصرف عالمياً فإن المهم في كلتا الحالتين أن يكون البعد العالمي ماثلاً دائماً أمامنا، بعد أن تشابكت المصالح إلى حد بعيد، وتداخلت تداخلاً لا يمكن فرز بعضها عن بعض، نعم إن هذا الإطار العلمي والنظري للعولمة شيء، والعولمة الغربية التي ظهرت في الساحة وعرفناها حتى الآن على أرض الواقع وفي إطار العمل والتطبيق هي شيء آخر، فقد هيمنت الأسواق على عملية العولمة، وصادرت منافعها وخيراتها، مما أدى إلى أن تحتكر شعوب قليلة معيّنة وأقطار متعددة بعينها، فوائد العولمة ونتائجها الإيجابية، وتترك سلبياتها وأضرارها لشعوب كثيرة وأقطار أخرى تشكل غالبية الأقطار في العالم.

جوانب من العولمة

مسألة: لقد ظهر مما سبق أن العولمة هي اتجاه متفاقم نحو تخطي الحدود وتجاوزها.

وبعبارة أخرى العولمة تعني: التعامل دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية، أو بدولة معينة، أو الانتماء إلى وطن محدد، أو إلى جهة خاصة، ودون حاجة لإجراءات حكومية، أو تحريات قضائية.

ويظهر ذلك بشكل واضح في الشركات متعددة الجنسيات، وفى انتقال رأس المال الذي يبرز جلياً عبر استخدام تذاكر الائتمان، وامتلاك الأرباح من غير خسائر.

وللعولمة كما يقال جوانب ثلاثة كالتالي:

أولها: جانب مادي جاء نتيجة التقدم العلمي، والتطور الصناعي المدهش، وما ترتب عليه من تغيير كبير في وسائل النشر والإعلام، والاتصال والارتباط، والأطباق اللاقطة والمحطات الفضائية، التي تبث برامجها لكل أنحاء الكرة الأرضية، ولكل البشر على هذه الكرة الترابية، دون أن تحدها حدود، أو تحجّمها قيود، وهكذا في ثورة المعلوماتية المدهشة التي تجسدها شبكة الانترنيت في كل زوايا الأرض.

ومن المعلوم: أن هذا الجانب من العولمة ليس مطروحاً للجدل والمناقشة، ولا للقبول أو الرفض، إذ هو واقع خارجي وقد أصبح أحد ظواهر العصر الذي نعيشه، ولكن علينا أن نعرف كيف نتعامل معه، لاستيعاب الوضع ولنكون أكثر تأثيراً في عالمنا المعاصر الذي نعيش فيه، وعلينا أن نعرّف شعوبنا النافع منه والضار تفادياً لأخطارها وتجنباً من مساوئها.

ثانيها: جانب قيمي جاء نتيجة الظاهرة التنافسية لنمط الإنتاج الرأسمالي، الذي فرضه اقتصاد السوق على العالم، وعزّزه باتفاقية التجارة العالمية: الغات المعروفة.

ولا يخفى أن هذا الجانب من العولمة يثير وبشدّة كثيراً من المخاوف والشكوك، وخاصة بعد أن جاءت جولة أورجواي وبكل قوة لتكون ضربة قاضية للدول النامية، حيث إن الدول الصناعية الكبرى قد فرضت وبعنف شروطها المجحفة والقاسية لتحرّر التجارة لصالحها وانتقال رؤوس الأموال.

ثالثها: جانب إعلامي وجاء نتيجة الطابع التوسعي لسياسة الغرب، فإنها سعياً لنشر هيمنتها على الدول النامية، وقبضتها على الأسواق العالمية تقوم الدول الغربية بالإعلام لصالح العولمة والإعلان عن محسّنات مختلقة لها، بينما واقع العولمة الغربية هو واقع الهيمنة وحقيقتها هي حقيقة السلطة والسيطرة، علماً بأن العولمة التي تكون في صالح الإنسانية من جميع الجهات هي عولمة الإسلام فحسب.

هذا ولا يخفى أن الجانب القيمي الذي جاء نتيجة الظاهرة التنافسية لنمط الإنتاج الرأسمالي من العولمة هو الذي يجعل من العولمة مسألة خلافية متنازع فيها، وهو الذي يستدعي توضيح وبيان أكثر للعولمة في أبعادها في حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والمدنية والثقافية.

العولمة وموقف المجتمعات منها

مسألة: إن موقف المجتمعات من العولمة موقف مختلف وغير متحد، فإن هناك معركة كبرى تدور في المجتمعات حول العولمة سياسية واقتصادية، وثقافية وفكرية، وغير ذلك.

أجل إن كل جديد يتحقق في العالم الخارجي، تنقسم المجتمعات البشرية في موقفهم تجاهه إلى أقسام تالية:

فإن هناك من المجتمعات ما ترفض كل جديد ـ ومنها: العولمة ـ رفضاً تاماً، وهي مجتمعات تقف ضد التيار، وعكس مسار التاريخ، ولكنها تنكفئ وتذوب عادة ولا يكتب لها النجاح.

وإن هناك مجتمعات على العكس منها، وهي مجتمعات استسلامية تقبل كل جديد ومنها العولمة من دون قيد وشرط، معتبرة أن العولمة هي لغة العصر القادم، ولا محيص منها، متغافلة عن السلبيات الخطيرة التي تتواجد في بعض جوانب العولمة.

وإن هناك مجتمعات وسط بين الاتجاهين، وهي مجتمعات واعية تحاول فهم القوانين والمعادلات الحاكمة للعولمة، وتعترف أولاً وقبل كل شيء بأن العولمة حدث تاريخي خارجي، وتدرك مع ذلك بأنه من غير الصحيح أن تستسلم لكل ما جاءت به العولمة من المفاهيم والقيم التي تقوم عليها في الوقت الحاضر، والتي تهدف في الواقع إلى استرجاع نظام الهيمنة الاستبدادية القديم، وعرضها بأزياء وصور حديثة وجديدة.

وهذه الاتجاهات الثلاثة ظهرت على الساحة في كل من بلاد أوروبا وفرنسا بصورة عامة، وبدت واضحة وبصورة خاصة من موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي الرافض للعولمة وذلك بحسب بيانه الرسمي الصادر قبل عدة أعوام، وقد كان البيان الصادر تحت عنوان: (العولمة وأوروبا وفرنسا) وهذا البيان يتضمن أعنف نقد، وأقسى لوم على العولمة الغربية الأمريكية.

مضافاً إلى كل ذلك فقد بدأت حركات فكرية جديدة تتصاعد داخل أمريكا نفسها ضد العولمة، وهذه الحركات لم تكتف بالنقد التفصيلي للعولمة وجوانبها الاقتصادية والسياسية، والفكرية والثقافية، بل أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، إنها تحاول إراءة بديل للعولمة الأمريكية والترويج له.

هذا وقد تعرض لبيان هذه الحركات الفكرية ونشاطاتها في أمريكا، عدة كتب انتشرت في الأسواق تحتوي على عشرات البحوث التحقيقية والدراسات المسهبة والمعمقة في هذا الموضوع[19].

العولمة وحقوق الإنسان الثقافية

مسألة: إن حقوق الإنسان الثقافية، بالنسبة إلى آثار العولمة وتأثيراتها عليها تكون أكثر تعقيداً وأكبر تصعيداً من المجالات الأخرى، فإن الجدل في هذه أي: في حقوق الإنسان الثقافية وآثار العولمة عليها، قائم على أشد مما هو في غيرها، فالقيم المتجذرة في نفس المجتمعات والمثل المترسخة في ضمير الشعوب هي التي تشكل رؤيتها وتحدد نظرتها للعالم، وهذا هو ما يتنافى مع آثار العولمة وأهدافها، ومن هنا تأتي أهمية الثقافة بالنسبة لقضية العولمة.

هذا ولا يخفى أن المعاهدات الدولية تؤكد على أن للإنسان الحق في التمسك بثقافته الخاصة، والتكلم بلغته الخاصة، والتجاهر بدينه الخاص، والإعلان عن مذهبه الخاص، يعني: أن تكون له خصوصيته الثقافية، وهي تستدعي التباين مع الخصوصيات الثقافية الأخرى، بسبب اختلاف اللغة، أو الدين، أو المذهب، أو السلالة، أو ما أشبه، وذلك في إطار الثقافة والفكر، وعلى مستوى الوطن والمنطقة، والتمدن والحضارة، وغير ذلك، مع أن العولمة تريد تعميم ثقافة واحدة على كل أهل المعمورة، وهذا مما يثير الخوف والقلق لدى الكثير، لما يرون في ذلك من تهديد للخصوصية، وخاصة من الذين يملكون إمكانيات كبيرة في الأمور الثقافية ويستطيعون عبرها تعميم ثقافتهم على العالم.

هيمنة الثقافة الأمريكية

مسألة: مما يلزم الانتباه له أن الغرب يسعى في نشر ثقافته عبر العولمة، فمثلاً عُرفت أمريكا بتفوقها على بقية الدول في نسبة ما تصدّره من مواد ثقافية فكرية، وترفيهية تنشيطية، من نشرات وكتب، ومسرحيات وأفلام، وبرامج راديو وتلفزيون، إلى حد أن صادراتها من هذه المواد تسبق جميع صادراتها بالنسبة إلى المجالات الأخرى، فقد ربح فيلم واحد من أفلامها مبلغاً قدره على ما قيل: أكثر من بليون دولار أمريكي، وهذا ما يدفع أمريكا أن تتعامل وبإصرار بالغ، مع السلع الثقافية معاملة تختلف عن بقية السلع الأخرى، يعني: إنها تعفيها من فرض أية قيود تمييزية عليها.

وهذا تماماً بالعكس من فرنسا ودول أخرى كفرنسا، فإنها تملك إمكانيات لا بأس بها في مجال الإعلام الثقافي والفكري، لكنها أضعف من إمكانيات أمريكا وعلى اثر ذلك أصبحت تلك الدول تعتبر العولمة الثقافية خطراً كبيراً يهدد هويتها الثقافية وينذرها بالذوبان والنسيان.

أما مشكلة العولمة الثقافية بالنسبة إلى العالم الثالث، فإنها أشد خطراً عليها من غيرها، إذ لأمريكا وكذلك للدول الصناعية الكبرى، من الإمكانيات والقدرات الثقافية ما لم يكن لدى العالم الثالث شيء منها، وهي ما جعلت دول العالم الثالث سريعة الانفعال وفى وضع المستسلم لها.

إحصائيات وأرقام:

لقد ذكرت بعض المنظمات الدولية، إحصائيات في مجال البرامج الثقافية وسيطرتها على الأسواق المحلية لبلدان العالم الثالث، فقالوا:

إن مصر تستورد لبرامج شبكاتها التلفزيونية: ثلث إجمالي البث.

إن تونس والجزائر تستورد نصف هذا الإجمالي المذكور من بثها التلفزيوني.

وان لبنان تستورد من البرامج الأجنبية ما يزيد على ذلك، حيث تتراوح نسبة ما تبثه في تلفزيونها بين 60% إلى 96% من مجموع البرامج الثقافية والفكرية فيها.

وإذا أحصينا ما يقارب من 300 شركة إعلامية هي الأولى في العالم، نجد بينها 144 شركة أمريكية و80 أوروبية و49 يابانية، ومن الشركات 75 الأولى في مجال نقل المعلومات إلى الجمهور هناك 39 شركة أمريكية و25 أوروبية غربية و8 يابانية، وفي قطاع الخدمات المعلوماتية والاتصالات بعيدة المدى ومن بين الشركات 88 الأولى نجد 39 أمريكية و19 أوروبية غربية و7 يابانية، وفي قطاع التجهيزات ومن 158 شركة هناك 75 شركة أمريكية و36 أوروبية غربية و23 يابانية، ويوجد الباقي في استراليا وكندا وما أشبه.

ومن المعلوم: إن هذه التبعية الثقافية والإعلامية تثير مخاوف الكثيرين في منطقتنا، وذلك لأنهم يرونها تهدد هويتهم الثقافية التي هي حق محترم من حقوق الإنسان، وهو كذلك، والخوف منها في محله، ولابد من العمل على تفادي أخطارها.

والذي يزيد من هذه المخاوف هو: ظهور عدة نظريات غربية متسرّعة في أعقاب سقوط حائط برلين في ألمانيا، تؤكد تلك النظريات على انتشار الليبرالية الجديدة، وتفشّي الحضارة الغربية، وتطالب بوجوب تعميمها لتشمل العالم أجمع، وتغطي على كل الحضارات الموجودة فيها جمعاء.

وهذه النظريات وأشباهها، وإن لم تستند إلى تحليل موضوعي لكيفية النزاعات التي سوف تحدث تباعاً في القرن الجديد، إلاّ أنها أثارت في أوساط العالم الثالث وبين المسلمين خاصة الكثير من المخاوف، لأنها صدرت عن جهات معتمدة وذات نفوذ داخل الغرب، تعكس ما تنطوي عليه سياسة الهيمنة الاستعمارية من نوايا سيئة، ومن عداء شديد للإسلام والمسلمين بل للبشرية والإنسانية أجمعين.

التناقض بين القول والفعل

مسألة: إن هناك مشكلة واقعية حقيقية، باتت تواجه الانفتاح السياسي واحترام حقوق الإنسان في عصر العولمة وهي: أنّ النظام الدولي القائم حالياً ليس نظاماً منفتحاً خالياً من الاستبداد، إذ توجد فيه دولة عظمى واحدة ولم يكن في مقابلها دول عظمى أخرى، ومن الواضح أن الدولة العظمى تسعى سعياً لأن تفرض قوانينها ونمط استهلاكها وثقافتها على العالم أجمع، وهذا يوجب اختلال المعادلات الأخلاقية، وسيادة المعايير المزدوجة والانتقائية في مواجهة قضايا حقوق الإنسان، وتفاقم المشاكل الإنسانية القائمة في بلدان العالم الثالث والإسلامية بصورة خاصة على قدم وساق.

ومن هنا ترى أمريكا لم تحسن استخدام حق التدخل في مواجهة الانتهاكات المحلية لحقوق الإنسان، ولم ترفق في مسلكها كدولة عظمى، ففي نفس الوقت الذي تصب أطنان المتفجرات على شعب أعزل، تراها تستخدم حق الفيتو في مجلس الأمن أكثر من مائة وخمسين مرة حتى الآن لحماية إسرائيل من أي قرار يدينها ويندّد بها، أو يوقع عليها عقوبة عارمة، نتيجة أعمالها الوحشية ومذابحها ضد الشعب الفلسطيني المسلم، من دير ياسين إلى مذبحة قانا، ومروراً بتهجير شعب فلسطين، وحرق قراه، واستمراراً باحتلال الأراضي الإسلامية، وانتهاءً بالتهديدات القاسية التي تفضح سياسة اليهود العنصرية، مثل: التهديد بقتل الأطفال وحرق التراب اللبناني بعد سرقة قسماً منه.

ولقد ظهرت نفس المشكلات الآنفة أي: مشكلة اختلال المعادلات الأخلاقية، ومعضلة الانتقائية والمعايير المزدوجة أيضاً في كل من البوسنة والصومال وبورندي والشيشان وأماكن أخرى كثيرة من العالم كأفغانستان وما شابهها.

ومن الواضح أن هذه المشاكل لم تكن في العولمة الإسلامية المبتنية على العدل والإنصاف، والقيم والأخلاق.


جذور العولمة الغربية
ظهرت الليبرالية الجديدة ـ على ما يبدو من دراسة جذور العولمة الغربية ـ بعد انتهاء الحرب الباردة وبعد سقوط الشيوعية، وتفكك الاشتراكية، وتفسخ اليمين التقليدي، وكان ظهورها بلباس الاقتصاد الرأسمالي، وبثوب العولمة، لتغزو كل الدول، وتدعو إلى حرية انتقال رأس المال، وإلغاء الحواجز الجمركية، والإطاحة بالأنظمة، لتعزيز حرية المبادلات التجارية، بحيث أنتج نوعاً من التباعد بين النشاط المالي والنشاط الاقتصادي، فمن أصل رأس مال قدره ألف وخمسمائة مليار دولار، تدور في دوّامة العمليات اليومية على الصعيد العالمي، نرى أن هناك واحداً بالمائة فقط يخصص للبحث عن ثروات جديدة، بينما يدوّر الباقي في إطار المضاربات.
ومعه تمّ تحوّل النظام الرأسمالي إلى نظام عالمي بقيادة أمريكا، والسبب في ذلك هو أنّ هذه القيادة هي واسعة ثروةً، وديمقراطية نظاماً ولو بنسبة، ووسيعة أرضاً، وكثيرة شعباً، وهي مع كل ذلك بصدد التقدم على منافسيها والهيمنة عليهم، وإلا فسعة الصين أو الهند أكثر من أمريكا، لكنهم ليسوا بصدد القيادة فعلاً.
وقد ابتدأت أمريكا باتجاه فرض هيمنتها على العالم مع تعاظم القوة الاقتصادية للشركات المتعددة القوميات، والتي مثّلت سلطة هذه العولمة دون أن تعلن عن هويّتها أو ولائاتها، وهذه الشركات غير خاضعة لمسؤولية معيّنة، لأنها لاتمثل السلطة الرسمية لأيّة أمة من الاُمم، ولا دولة من الدول.
وبمناسبة اجتماع وزراء أعضاء منظمة التجارة الدولية في سياتل عام 2000، أخبرت الإذاعات وعكست الأقمار الصناعية، لقطات وصور من مظاهرات صاخبة جدّاً مؤلفة من مختلف طبقات الناس، وخاصة الطبقة العاملة والمزارعة، وجماعات من المثقفين من أصحاب الفكر الاقتصادي والنقابي، والاجتماعي والحقوقي، وقد خرجت هذه الجموع تندد بالمجتمعين واجتماعهم الذي عقدوه لمدارسة الصيغة العالمية للاقتصاد العالمي، مما يدل على سخط الجماهير منها، ونقمتهم عليها وعلى العولمة الغربية الجديدة وأسلوبها الظالم.
وقد استطاع المتظاهرون رغم الحواجز الأمنية وبعد المواجهات العنيفة بينهم وبين الشرطة من احتجاز الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في الفندق لمدة أربع ساعات ونصف، وشلّ أعمال التجمع لليوم الأول، وبعد أن أوصل بيل كلينتون نفسه إلى المؤتمر أشار في خطابه إلى أنه على الدول أن تأخذ بعين الاعتبار الشعارات التي نادى بها المتظاهرون، والتي سمعها هو مباشرة خلال احتجازه في الفندق والتي كان منها ما يلي:
الرأسمالية وحش قاتل.
الرأسمالية دولة الأثرياء.
نريد معلوماتية تخدم الإنسان.
نطالب بقيم الإنسان وليس بقيم ملاّك الشركات والمؤسسات الكبرى.
لا نريد عولمة لجمع الثروة فقط.
لا نريد حريات اقتصادية تسحق حق العيش الكريم.
الإنسان بلا ضمانات يأكله وحش المال.
النظام الرأسمالي يدفع المواطنين إلى الانتحار.
إلى غير ذلك.
وهكذا في ملبورن باستراليا حيث قامت مظاهرة معادية للعولمة، وقد شارك فيها آلاف الأشخاص وأدت إلى فوضى عارمة لدى افتتاح (قمة آسيا المحيط الهادئ للمنتدى الاقتصادي العالمي) ورُددت شعارات ضد العولمة، كان
منها:
لا للرأسمالية.
لا للمنفعة الفردية مقابل المجتمع.
العولمة وحش قاتل.
العولمة قانون الأقوى.
نريد سياسة لا تتأثر بالمال.
ناهضوا العولمة قبل أن يملكنا رجال الأعمال والمال.
إلى غير ذلك.
وفي بيان وقعته 1200 منظمة من 87 دولة جاء فيه: «إن منظمة التجارة العالمية في السنوات الخمس الأخيرة قد أسهمت بدور بارز في تركيز الثروة في أيدي أقلية من الأثرياء جنباً إلى جنب، مع زيادة تفشي الفقر لأغلبية سكان الأرض... إن الاتفاقات التي أبرمت في دور الاورجواي للتجارة قد استهدفت فتح أسواق جديدة لصالح المؤسسات متعددة الجنسيات، وعلى حساب الاقتصاد الوطني والعاملين والزارعين والعدد من الفئات الأخرى والبيئة».
العولمة الغربية، عواملها وأهدافها
وهاهنا بعض الأسئلة ينبغي الجواب عليها:
1: ما هي أسباب وعوامل بروز ظاهرة العولمة الغربية في العصر الحاضر؟
2: هل هذه العولمة تؤدي إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة أو ترجع إلى تشديده والتأكيد عليه؟
3: هل في العولمة ما يضمن زيادة التجانس والتوافق أو تعمل على تعميق الفوارق والاختلافات؟
4: هل العولمة تهدف إلى توحيد العالم، أو تسعى لتثبيت الأنظمة المجتمعية عن طريق الحدود الجغرافية المصطنعة؟
5: هل إن مصادر العولمة مصادر رئيسية واحدة، أو تتشعب من مصادر متنوعة ومتداخلة؟
6: هل إن العولمة تنبعث من عوامل اقتصادية وإبداعات تقنية أو أنها تنبعث من خلال الأزمة الايكولوجية؟
7: هل إن العولمة تجمع كل هذه العوامل الآنفة، أو أنه يوجد هناك عوامل وأبعاد أخرى منفلتة عنها؟
8: هل إن العولمة تستبد بثقافة واحدة عامة، أو تسمح بوجود ثقافات متعددة، محلية وقومية متنوعة؟
9: هل إن العولمة تحوّل بارز، وتطوّر ظاهر، يجمع بين العام والخاص، وبين المحلي والخارجي، وبين المغلق والمفتوح على المدى الطويل والبعيد، أو إنها الغاز غامضة؟
10: هل إن العولمة جاءت لزيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء على جميع المستويات؟ أو إنّها جاءت لسد الفجوة الموجودة بينهما؟
11: هل إن العولمة تستدعي وجود حكومة عالمية أو تكتفي بالحكومات المحلية؟
12: وأخيراً هل إن العولمة تسعى لتوحيد الأفكار والثقافات، أو إنها تشجع الأفكار والثقافات الموجودة وتقوّي التمسك بها؟
نعم، قد تتبادر هذه الأسئلة وأكثر منها إلى ذهن الإنسان عندما يسمع كلمة (العولمة) ويبحث عنها.
ولعل الجواب إجمالاً هو:
إن أهم عوامل ظهور العولمة بالمعنى المعاصر انفراد الكتلة الغربية في الساحة العالمية، وتطلب النظام الاقتصادي الرأسمالي التدويل والتعولم، كما إن أهم أهداف العولمة المعاصرة هو: سيادة النظام الغربي، وهيمنة الأفكار الغربية وثقافتها، إذ أن جوهر عملية العولمة يتمثل وبصورة خاصة في تسهيل حركة الناس، وفي انتقال كل واحد من المعلومات والسلع والخدمات على النطاق العالمي.
ثم إن كلاً من الحركة والانتقالات التي تنتشر عبر الحدود يشمل ستة أمور رئيسية وهي كالتالي:
1: رأس المال
2: البضائع
3: الأفكار
4: الأفراد
5: الخدمات
6: المعلومات والمؤسسات الاقتصادية
وبالتالي تتجلى العولمة الغربية في مجالين بوضوح أكثر منه مما في المجالات الأخرى، وهما:
المجال الاقتصادي.
والمجال السياسي.
ولكن العولمة الصحيحة وهي عولمة الإسلام، فإنها تضمن جميع الحريات المشروعة وتأخذ بأيدي الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة.
العولمة السياسية الغربية
مسألة: إن النظام الرأسمالي الذي يحكمه قانون تعظيم الأرباح الخاصة وتضخيمها، يهدف إلى التوسع، والتوسع لا يتم إلاّ عبر استثمار أرباحه والحصول على قروض من أسواق الرساميل، وعليه: فإذا لم يتوسع يتعرض للركود والكساد والأزمات الدورية، وذلك واضح، ويزيده وضوحاً الأمثلة التاريخية على هذه الأزمات، فإنها كثيرة ومعروفة لدى أهل الخبرة والفن.
ثم إن التوسع يؤدي بطبيعته إلى بروز المنشآت الاقتصادية الكبرى عن طريق تمركز رأس المال، ولعل من أهم الأسباب في تحقيق ذلك، هي عمليات الدمج بين المنشآت الكبرى، أو استيلاء منشأة كبرى واحدة، على منشآت متعددة أصغر منها، وذلك عن طريق البيع والشراء أو غير ذلك من طرق النقل والانتقال.
ثم إنّه في عملية التوسع هذه قد تتراكم فوائض مالية جمة، لا يجد أصحابها أحياناً مجالات مربحة في استثمارات حقيقية حتى يقوموا بها وتؤدي إلى زيادة الإنتاج والتجارة، ولذلك يقوم أصحاب هذه الفوائض الجمة بفتح مجالات مربحة في المضاربة ضمن إطار الدولة الواحدة.
مضافاً إلى أن أصحاب هذه الفوائض الجمة يبعثون على الضغط بالنسبة إلى الدول والحكومات لتأمين حرية انتقال الفائض من دولة إلى دولة بواسطة رفع القيود عن حركة الرساميل، وبديهي أن يكون حينئذ أهم سمة للنظام الرأسمالي العالمي المعاصر هو ما يسمى بالعولمة المالية المتحققة عبر العولمة السياسية الغربية فإن العزة الاقتصادية تدعو للعزة السياسية وتبشر بها.
نعم إن النظام الاقتصادي الراهن، المعزز بالهيمنة السياسية للغرب، يُمثّل مرحلة جديدة من مراحل التطور السريع للسياسة المالية، ويجسّد صفحة حديثة من صفحات الاقتصاد الرأسمالي العالمي وقد تسمى هذه الصفحة وهذه المرحلة باسم: (العولمة) وهو قد يتسم بخصائص عديدة أهمها:
1: ازدياد دور الشركات متعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي بعد سقوط نظام بيريتون، وودز.
2: ازدياد أهمية مؤسسات العولمة الثلاث التي هي عبارة عن: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة.
3: تعريف مراكز القوى الاقتصادية العالمية للتغيير الأكيد المتدرج.
4: تحويل هيكلية الاقتصاد العالمي وتبديل سياسات التنمية العالمية وتغييرها.
5: تقهقر أهمية مصادر الطاقة التقليدية والمواد الأولية في السوق العالمية وتراجعها.
وبالتالي انطباع كل هذه البنود الاقتصادية المذكورة وغيرها مما لم نتعرض لها للاختصار ومخافة التطويل بالصبغة السياسية وتحكم العولمة السياسية بها، وهيمنتها عليها[1].
وهذا من أسباب بروز العولمة السياسية الغربية.
العولمة الاقتصادية الغربية
مسألة: التدويل الذي أصبح الاقتصاد العالمي يتصف به حسب رأي بعض الاقتصاديين هو من أهم سمات الاقتصاد ظهوراً في العقود الثلاثة الأخيرة.
والتدويل بالنظر البدوي هو ظهور متعاظم لما للعلاقات الاقتصادية الدولية من دور هام بالنسبة إلى الأنشطة الاقتصادية المحلية أو الوطنية، ويظهر هذا واضحاً من خلال الدور الكبير الذي تتبنّاه الشركات المتعددة الجنسيات، الممتدة نشاطاتها وفروعها في كل مكان وإلى مختلف أنحاء العالم، كما إنّها تهيمن وتسيطر على جزء مهم وكبير من عمليات الإنتاج والتمويل وتوزيع الدخل العالمي.
ثم إن هذا الدور مضافاً إلى أنه في الغالب ظاهر بارز، إلا أنه قد يكون أحياناً خفياً غير مباشر، ومستوراً غير ظاهر، مما يجعلنا نتمكن من الحديث عن مستوى اقتصادي عالمي، متميز بآلياته ومشكلاته، ومتشخص بتقلّبه وتطوره على المستويات المحلية والوطنية، وعندها تصبح النظرة للعالم باعتباره الوحدة الاقتصادية الأساسية والمحور للتطورات المستمرة.
وهذا من أسباب بروز العولمة الاقتصادية الغربية.
تداخل العولمتين: الاقتصادية والسياسية
مسألة: إن هناك روابط وثيقة بل تلازم واضح بين العولمتين: الاقتصادية والسياسية، فلا عولمة اقتصادية إلا ويلازمها عولمة سياسية، وقد ظهر هذا أيضاً مما سبق، ولكن حيث إن العولمة السياسية الغربية تساوي معنى الهيمنة السياسية، لذلك أدخلوا العولمة السياسية في العولمة الاقتصادية وأطّروها بإطارها، ولم يتعرضوا إلاّ لها، وجعلوها الواجهة للعولمة وطرحوها بين الناس، ومشى الناس عليها.
وكيف كان: فإن العولمة الاقتصادية أخذت أبعادها في الحال الحاضر بانتصار القوى الرأسمالية العالمية، وفوز العولمة السياسية بقيادة أمريكا، وسقوط الاتحاد السوفيتي والأنظمة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية، مما جعل النظام الاقتصادي الاجتماعي الرأسمالي يستعيد هيمنته وانتشاره لكن في صورته الجديدة، المبتنية على اقتصاد السوق، وعلى الثورة المعلوماتية، وعلى دمج الاقتصاديات الوطنية بالسوق الرأسمالية العالمية، وخضوعها لمفاهيم السوق، ولغة المنافسة الاحتكارية، وذلك بإشراف مؤسسات العولمة الاقتصادية الثلاث التي هي عبارة عن: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، والمنظمة العالمية للتجارة وهذه الأخيرة هي خليفة الغات.
ثم إن ملامح العولمة السياسية المغلّفة بالعولمة في الاقتصاد تبدو من خلال المظاهر الآتية وعلى ما يلي:
1: الإقبال الشديد على التكتل الاقتصادي للاستفادة من التطورات التقنية المدهشة.
2: تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات وتنامي أرباحها، وأتساع أسواقها، وتزايد نفوذها في التجارة الدولية والعالمية.
3: تنامي دور المؤسسات المالية الدولية والعالمية في تصميم برامج الإصلاح الاقتصادي، وتعديل سياسات التثبيت أو التغيير الهيكلي في الدول النامية، وذلك من أجل التحول إلى اقتصاد السوق.
4: إثارة المشكلات الاقتصادية وتدويلها، مثل الفقر، ومثل الأمية، ومثل التلوث وحماية البيئة، والتوجه العالمي لمعالجة هذه المشكلات والتعاون في حلها جميعاً.
5: تزايد دور التقنيات والتغيرات السريعة في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتج وتأثيرها على الاقتصاد العالمي.
6: شيوع ظاهرة القرية العالمية والأسرة الواحدة، وتقليص المسافات وتحجيمها نتيجة لتطور وسائل النقل والمواصلات، وكثرة الاحتكاك بين الشعوب والرعايا.
7: تقدّم وسائل الإعلام وتطوّرها، وتأثيرها الكبير على حياة الإنسان، في انتشار الحضارات والثقافات وتشابكها وتداخل بعضها مع البعض الآخر.
8: تفاقم دور الموجه الثالثة: المعلوماتية، والإدارة، والمراقبة من إدارة نظم المعلومات، وغير ذلك.
العولمة والنظام العالمي الجديد
مسألة: النظام العالمي الجديد الذي سبّب العولمة الغربية يترتب بالدرجة الأولى على: الأقطاب الاقتصادية، وبعد ذلك على الأقطاب المسلحة، كأوروبا الموحّدة التي كان إجمالي ناتجها القومي المتوسط قرابة خمسة آلاف مليار دولار في سنة 2000م، وحصتها من التجارة العالمية ثمانية عشر من عشرة ونفوسها ثلاثمائة واثنين وعشرين مليون نسمة، ووصلوا في نهاية القرن الحالي إلى أربعمائة مليون نسمة تقريبا.
هذا بالنسبة إلى أوروبا الموحّدة، وأما بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فإن إجمالي ناتجها القومي يعادل قرابة أربعة آلاف مليار من الدولارات، وحصتها سبعة عشر من عشرة من التجارة العالمية، ونفوسها ما يقرب من ثلاثمائة مليون نسمة.
ثم بعد ذلك يأتي دور اليابان، وإجمالي ناتجها القومي مائتا مليار دولار، وحصتها تسعة من عشرة من التجارة العالمية، ونفوسها مائة وثلاثون مليون نسمة، ومعنى ذلك: إن اليابان وألمانيا اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية ستكونان أقوى من أيّ وقتٍ مضى، حيث إنهما حسمتا ناتج الحرب الباردة لصالحهما، وبرزتا كقوتين اقتصاديتين وقوّتين تكنولوجيتين عظيمتين، خصوصاً وإنّ ألمانيا قد اتحد شطراها.
وبعد هذه البلدان الثلاثة يأتي دور الأقطاب الاقتصادية الإقليمية، وأبرزها دول جنوب شرق آسيا، والسوق المشتركة بينهم، وهي: كوريا الجنوبية وتايوان، وهونغ كونغ، وسنغافورة، وماليزيا، وتايلندا، وهي الدول المعروفة اليوم بدول حوض الباسفيك، المطلّة على المحيط الهادي، وستشكل قوّة اقتصادية كبيرة في المستقبل غير البعيد، وذلك لأنها شهدت ارتفاعاً هائلاً في إجمالي ناتجها القومي، وإذا أضيف إليها اليابان فإن إجمالي ناتجها القومي سيحتل نسبة عشرين في العشرة من إجمالي ناتج العالم، بعد أن كانت النسبة لا تتجاوز ثمانية من عشرة في السبعينات، وستة عشر من عشرة في التسعينات.
أمّا الأقطاب السياسية الاقتصادية الإقليمية، وأبرزها في منطقة الشرق الأوسط هي الدول الإسلامية، بالنظر لوضعها السياسي الخاص الذي سيبقي ساخناً في المستقبل القريب على الأقل، وذلك على العكس من مناطق شرق آسيا ووسط جنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي فرضت عليها أوضاع مستقرة إلى حدّ كبير، حيث إنها ستكيّف وضعها الداخلي، وعلاقاتها الخارجية وفقاً للمعادلة الاقتصادية للنظام العالمي، الأمر الذي يجعل وضعها السياسي مستقراً في الداخل، بعد أن تضطرّ ولو بنسبة إلى تبنّي نظم الديمقراطية الغربية، كما حصل في البرازيل، وهندوراس، وشيلي، التي استبدلت فيها الأنظمة العسكرية بأنظمة مدنيّة، ابتداءً من أواخر العام المنصرم، وسيكون القطب الأبرز في الشرق الأوسط هو: القوة الإسلامية التي تقودها بلاد إسلامية وتتمتع بامتدادات سياسية واسعة، وموارد اقتصادية هائلة، وقوّة عسكرية آخذة في التطور.
ولكن الدول الإسلامية إذا أرادت العزة والقوة فإنها ليست عند الغرب، بل ((لله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [2]، ولا تكون لهم العزة إلا بالرجوع إلى القوانين الإسلامية العالمية التي بينها القرآن الكريم وطبقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال تعالى: ((الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً)) [3].
وقال سبحانه: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ)) [4].
نعم إن ما ذكر من الحقائق الاقتصادية في هذه الدول، دفعت أمريكا إلى التعامل مع وحدات النظام العالمي الأخرى وفقاً لما تمليه عليها مصالحها في المستقبل، للمحافظة على موقعها وقطبيتها المركزية.
كما حاولت أمريكا إملاء شروطها السياسية والاقتصادية على اليابان وأوروبا الموحدة، وتوجيه حركتهم الاقتصادية قدر الإمكان وبالصورة التي لا تسمح لهما بتجاوزها مستقبلاً، وكان إحدى إجراءاتها في هذا المسار، إيجاد تكتّل اقتصادي كبير، بزعامة بلا منافس منها لأوروبا الموحدة باسم: رابطة دول شرق آسيا والباسفيك، وهي تضم كلاً من اليابان، وكوريا الجنوبية، ونيوزلندة، واستراليا، وكندا، ودول رابطة جنوب شرق آسيا، إضافةً إلى أمريكا.
وعلى مستوى المنطقة الإسلامية تحاول أمريكا ضمان موقعها وأهدافها في مستقبل النظام العالمي، وهو ما ظهر جليّاً خلال أزمة الكويت والأزمات الأخرى في المنطقة.
وأيضاً تحاول أمريكا فرض نظامها الإقليمي في المنطقة ومن خلال ما يسمّي بمحادثات السلام بشأن القضية الفلسطينية، إلى غير ذلك مما ينتهي أخيراً إلى عولمة البلاد في ظل النظام الاقتصادي الدولي بزعامة أمريكا، ومعنى ذلك: إن أمريكا هي المسيطرة على العالم في نظامها الجديد.
الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالمية
ثمّ إنه لما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وسببت ما سببته من دمار، برز الاقتصاد الأمريكي على الساحة العالمية كقوة مهيمنة في الاقتصاد العالمي، وقال البعض بأنه: قد استعملت أمريكا موقعها الاقتصادي هذا بعد الحرب لإيجاد تحالف دولي سياسي واقتصادي على أساس مساعدة الدولتين المنكوبتين: ألمانيا واليابان وهي تحاول إحداث تطور سريع في النمو الاقتصادي لشرق وجنوب شرق آسيا، وفي أوروبا الغربية، وذلك لمواجهة التهديدات الناجمة من الاقتصاد الشيوعي والاشتراكي في البلاد السوفيتية والصينية، وقد ظهرت مستويات ممتازة من النمو الاقتصادي منذ الخمسينات في تلك المناطق، غير أنه قابلتها مستويات لابأس بها أيضاً من النمو الاقتصادي الشيوعي والاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والصين أيضاً.
ولكن مع بداية تقهقر المد الاقتصادي الشيوعي والاشتراكي في الاتحاد السوفيتي والصين عند أواخر الستينات، بدء زحف اقتصادي جديد وأخذ ينتشر بسرعة في شرق وجنوب آسيا على شكل سلع تجارية تصديرية في نوعية ممتازة، وأسعار رخيصة، وطفقت تغطي السوق الأمريكية، وتنذر بإحداث عجز أكيد في الميزانية التجارية الأمريكية، وأخذت أمريكا تزداد مشكلة وبصورة خاصة عند ارتفاع اسعار النفط أوائل السبعينات، وعند التحول من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد تقني خدماتي يعتمد على الإعلام والمعلومات وما أشبه ذلك.
هذا ولكن أمريكا صمدت تجاه المشاكل والصعوبات التي واجهت اقتصادها في السبعينات والثمانينات، واستطاعت أن تجبر ولو بنسبة ما حصل في ميزانيتها التجارية من عجز، وأن تحقق إعادة بنيان اقتصادها، بل وتمكنت أن تستعيد في أوائل التسعينات المبادرة في القوة الاقتصادية وأن تسترجع بذلك مكانتها.
نعم في الوقت الذي ظلت أوروبا الغربية تقارع ارتفاع كلفة الإنتاج فيها وتحاربه، وتعاني من ارتفاع نسبة البطالة وعوائق أخرى وتئن منه، وفي الظرف الذي بقيت اليابان رابضة في ركود اقتصادي منذ بداية التسعينات، قامت أمريكا وبكل إمكاناتها لتستعيد تفوّق حصتها في الأسواق العالمية بالنسبة إلى صناعتي السيارات والكومبيوتر وغير ذلك، وبالفعل استطاعت أن تسترجع موقعها الاقتصادي وتؤكد على أنها أكبر سوق، وأكبر دولة مصدرة في العالم، فإنّها بتفوقها في الأبحاث العلمية في حقل التقنية العالية، وبإنفاقها من أجل تطور تقنياتها قد رفعت نفسها إلى موقع جيد وموضع ممتاز، يمنحها قدرة الاستمرار في السيطرة على الأسواق العالمية لصناعات الطائرات والسيارات، ولشبكة الارتباطات والاتصالات العالمية: الانترنيت وبرامج الحاسوب في مطلع القرن الجديد.
ولقد قال أحد المطلعين الأمريكيين مصرحاً:
نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، العولمة هي الأمركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق، إن صندوق النقد الدولي قطة أليفة بالمقارنة مع العولمة.
وهذا تصريح خبير منهم في مجال العولمة التي وقفت وراءها وبكل جدية أمريكا، وتريد تحقيقها على كل أقطار الأرض.
فاللازم على العلماء والمثقفين الإسلاميين طرح العولمة الإسلامية، فإنها مطابقة للفطرة الإنسانية وخالية من مساوئ العولمة الغربية وتأخذ بأيدي الجميع إلى السلام والرفاه والأمن والتقدم.
العولمة الغربية
بالمفهوم المعاصر
لا يخفى إن العولمة الغربية باللغة العصرية وبالمفهوم المعاصر أصبح بمعنى الأمركة، وهي تعني سيطرة الغرب وهيمنتها، والتحكم والتلاعب بالسياسة والاقتصاد، وفي مختلف البلاد والعباد، بل قد أخذت تمتد وتمتد لتطال ثقافات الشعوب بأجمعها، وتنال من الهوية الوطنية بأسرها، إنها طفقت تسعى جادة إلى تعميم أنموذج من السير والسلوك، وأنماط من الأخلاق والآداب، وأساليب من العيش والتدبير، تتوافق مع الثقافة الغربية، وتنسجم مع ميول المستعمرين، لتغزو بها ثقافات مجتمعات أخرى، وهذا لا يخلو من توجه استعماري جديد، في احتلال العقل والتفكير، وتسيير العقل والعواطف بعد الاحتلال وفق أهداف الغازي ومصالحه الشخصية، وقد أشار الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، إلى ذلك وأكّد عليه حين قال في أجواء الاحتفال بالنصر ومناخ الاحتشاد من أجل الظفر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية وأنماط العيش والسلوك الأمريكي.
هذا مع أنها ليست هي القيم المثلى، ولا الأنماط العليا، وإنما القيم المثلى هي قيم الإسلام، والأنماط العليا هي الأنماط الإسلامية التي رسمها القرآن الكريم ورسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) في العيش والسلوك الإسلامي.
ثقافة العولمة الغربية
مسألة: إن العولمة الغربية تشتمل على أهداف غير إنسانية، وغير أخلاقية، فأنها تفكر مضافاً إلى الربح المادي ولو على حساب الآخرين، في الغزو الفكري والثقافي وما أشبه ذلك.
علماً بأن الخطر الواقعي للعولمة إنما يكون مخفياً في جانب ثقافة العولمة، فإن خطره يكون أكثر من بقية جوانب العولمة، لانطواء العولمة على الترويج لخمس ثورات أساسية، لا تخلو من تأثير كبير على حياة الناس جميعاً، وهذه الثورات الخمس هي عبارة عما يلي:
1: الثورة الفكرية الثقافية المروجة لفكرة المادية البحتة الخالية من الأخلاق والمعنويات، والداعية لثقافة الاستيراد والاستهلاك والمشجعة على فكرة: أن ينتج الآخرون ونحن نستريح ونستفيد.
2: الثورة الديمقراطية السياسية، الداعية إلى الانفتاح على ثقافة العولمة بما فيها من سلبيات.
3: الثورة التقنية الثالثة، السريعة التغيير في أسلوب الإنتاج ونوعية المنتجات، أو ما بعد الثالثة مثلاً، من دون ملاحظة الأخلاقيات فيها.
4: ثورة التكتلات الاقتصادية للاستفادة من التطورات التقنية الهائلة وبصورة خاصة العملاقة منها، للتحصيل على الربح الأكثر.
5: ثورة اقتصاد السوق، وحرية التبادل التجاري، ورفع الحواجز الحدودية، ومنع الرسوم الجمركية وما أشبه ذلك.
والنظام العالمي المسمى بالعولمة يُبنى على ما ينجم من هذه الثورات الخمس، ويعتمد الاقتصاد في هذا النظام على استثمار الوقت بأقل تكلفة، وعن طريق تحويل المعرفة الجديدة وتبديلها إلى سلع أو خدمات جديدة، أو استخدامها في التنويع السريع، والتحسين المستمر في المنتجات، والاستفادة منها في جودة التصنيع، وعرضها الجيد على الأسواق، وذلك بطريقة فعالة ومتواصلة، ودائمة ومستمرة.
العولمة الغربية
والتنمية الاقتصادية
مسألة: إنّ التنمية الاقتصادية في العولمة الغربية ليس المهم لديها التغيير من وضع سيئ مأساوي إلى وضع أفضل وأجمل، وإنما المهم في قاموسها هو: تحصيل الربح الأكثر من أي طريق كان، مضافاً إلى ما سوف يستغرقه هذا التغيير من الوقت في أنّه مثلاً كيف تحدث العولمة؟ وبأي طريق سوف يتم حدوثها واستمرارها؟ وبواسطة أي الطرق والأساليب يمكن إسراع حركة البضائع والخدمات، وانتقال رأس المال والأفراد، وتنشيط المعلومات والأفكار، وتحريك الرموز والاتجاهات، وتشجيع أنماط السيرة ونماذج السلوك عبر الحدود؟.
وحسب بعض الإحصاءات: هناك 20% من دول العالم هي أكثر الدول ثراء، وتستحوذ على 84. 6% بالمائة من الناتج الإجمالي للعالم، وعلى 84. 2% من التجارة الدولية، ويمتلك سكانها 85. 5% من مجموع مدخرات العالم، وإنطلاقاً من عام 1960 تضاعفت الهوة بين تلك الدول التي تعتبر من أغنى الدول، والدول التي تعتبر من أفقر دول العالم.
ثم إنه ما هو دور الشركات متعددة الجنسيات بالنسبة إلى كل ذلك، وما أشبه هذه الأمور المذكورة؟
قال بعض الخبراء المعنيين في هذا المجال:
إنّ عملية الانتشار يمكن أن تتحقق عبر طرق أربع، يرتبط بعضها ببعض، ويتداخل شيء في شيء، وهي كالتالي:
1: عبر التفاعل الحواري الثنائي الاتجاه ومن خلال تقانة الاتصال والارتباط.
2: عبر الاتصال المونولوجي أحادي الاتجاه وعن طريق الطبقة المتوسطة المقتصدة.
3: عبر المنافسة والمحاكاة والإبداع وما أشبه ذلك.
4: عبر تماثل المؤسسات وتشابهها.
ولم يذكر هذا الخبير عما للشركات متعددة الجنسيات من دور رئيسي في تنشيط عمليات الحركة والانتقال، بالنسبة إلى البضائع والخدمات ورأس المال بصورة خاصة، وبالنسبة إلى المعلومات والأفكار، والرموز والاتجاهات وما أشبه بصورة عامة، فإنها تعتبر من أهم عناصر الانتقالات الكونية والعالمية.
من أدوات العولمة الغربية
مسألة: إنّ الشركات متعددة الجنسيات تعتبر اليوم من أهم الأدوات التي تستخدمها الرأسمالية الغربية وخاصة الأمريكية، وتوظّفها في دفع الاقتصاد العالمي باتجاه العولمة، وذلك للعوامل التالية:
1: الشيوع الواسع والانتشار السريع للشركات متعددة الجنسيات، فلقد بلغ عددها إلى ما يقرب من أربعين ألف شركة، يطال نشاطها جميع المجالات، ويمتد إلى كل القارات الخمس وحتى المحيطات الستة، وقد بلغت واردات إحدى هذه الشركات متعددة الجنسيات من بين خمسمائة شركة تعدّ هي أكبرها، وذلك في العقد الأخير من القرن العشرين نحو: أحد عشر الف مليار دولار، ويكون نسبة هذا من الناتج المحلي العالمي الذي بلغ قرابة ثلاثة وعشرين ألف مليار دولار 44%، كانت حصة الوطن العربي منه قرابة ستمائة مليار دولار، وحصة الشركات متعددة الجنسيات حوالي ثلثي التجارة الدولية في مجال السلع والخدمات وغير ذلك، وثلث الاستثمارات الأجنبية المباشرة وما أشبه ذلك على ما قالوا[5].
2: نهوض الشركات متعددة الجنسيات وقيامها بدور مهم في تدويل المنتجات والخدمات، والتجارة والاستثمارات، مما قد أدى وبكل قوة إلى سيادة أنماط عالمية في ميدان الاستثمار والاستهلاك، والتصدير والتسويق، والإعلان والدعاية، وما أشبه ذلك من مثل الإنتاج، وما يرتبط بالإنتاج من علاقاته ومالكية وسائله وكيفيات ذلك.
3: انسلاخ النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي عن المواقف المشرفة، وعن المشاعر والعواطف الإنسانية، كلما تصادم حق الإنسانية مع حيوية الاقتصاد، وذلك لأن العولمة تواكب غالباً زيادة الدخل عند مالكي وسائل الإنتاج، وترافق عادة ارتفاع قيمة أسهم الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك تصحب نوعاً ارتفاع نسبة المتقاعدين عن العمل في هذه الشركات، وهذه الأمور وأمثالها تتنافى مع حق الإنسان لأنها تهضم حقه ولا توفّيه ما يستحقه، ولأن فيها تكديس المال لأرباب هذه الشركات، وتقليله عند العاملين والمستهلكين، ويدل عليه الواقع الخارجي لمسألة العمال في هذه الشركات، إذ قد فصل عن العمل في المؤسسات الأمريكية ما يقارب من خمسين مليون عامل في مدة لا تتجاوز عن العشرين عاماً فقط[6].
أجل إن الشركات متعددة الجنسيات، أصبحت اليوم تتحكم بعصب السياسة الرئيسي، ألا وهو الاقتصاد، وتتلاعب به وبمقدرات الإنسان، بل بمقدرات الأمم والشعوب، وبالتالي بمقدرات كل العالم كيف تشاء، وبما تشاء، وتسعى بحثاً عن الأسواق، وعن المواد الخام، وعن كل ما يرتبط بنمو أرباحها وعائداتها، حتى إذا كان بما يعرق له جبين الانسانية، ويندى له وجه التاريخ.
إسرائيل إحدى أدوات العولمة الغربية
ومن الواضح إن إسرائيل إحدى أدوات العولمة الغربية المتوخاة لدى الأمريكان، ولهذا أخذ الأمريكيون يدعمون إسرائيل بأكبر قوّة عسكرية وسياسية واقتصادية وإعلامية في الشرق الأوسط، متحدّين بذلك جميع البلاد العربية والإسلامية، ولكن لا ينفع إسرائيل كل ذلك، كما لا يمكن دفع إسرائيل إلاّ بالمقابلة السلميّة والاحتجاجات المنطقية والدبلوماسيات القوية وما أشبه، وذلك بعد أن تتوحد الأمة الإسلامية وتأخذ بالقوانين الإسلامية المنسية من الأخوة والتعددية والحرية والشورى وما أشبه، قال سبحانه: ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم)) [7].
فالمقابلة بالبندقية، أو برمي الحجارة، من دون التصدي السياسي والإعلامي والدبلوماسي المناسب، لا تفيد شيئاً إلا إعطاء الذريعة للإسرائيليين الصهاينة بضرب الفلسطينيين وقصفهم قصفاً عشوائياً بلا رحمة ولا هوادة.
وقد بثّت صفحات التلفزيون صوراً التقطتها الأقمار الصناعية عن بعض ما يفعله الإسرائيليون في مقابلة من يرميهم بالحجارة من الفلسطينيين أصحاب الأرض، وأنهم كيف يرمونهم بوابل من الرصاص، وإذا عثروا على أحدهم كسروا يده، وذلك بوضعها على مصطبةٍ والضرب بساطور خشبيٍ على يده بكل قساوة، حتى تتكسر وتتهشم عظامها ولا يستطيع بعدها حمل السلاح ولا رمي الحجارة.