السبت، 16 مايو 2009

العولمة(1)
ماذا تعني هذه الكلمة؟ وما هي أهداف العولمة، وما هو الموقف الذي ينبغي للدول العربية والإسلامية اتخاذه منها؟
العولمةُ تعني ببساطة تعميمَ النمطِ الواحد الثقافي والاقتصادي (ثم السياسي) حكماً، ومحاولة بسطه على كل دول العالم.
وهي في مجمل هذا المعنى ليست حديثة عهد بل تعود إلى زمن قديم حيث كانت القوى الناشئة تطمح إلى التمدد والتوسع ما أسعفتها أو أغرتها بذلك قوتُها ، فقد تمدد اليونانيون بقيادة الاسكندر الكبير يصحبه فلاسفة وحكماء ، إلى أقاصي المعمورة التي كانت معروفة في زمانه ، وأنشأ ، وهو يفتح المدن ، مؤسساتٍ مختلفةٍ ومكاتبَ عامةٍ ، منها مكتبةُ الاسكندرية الشهيرة . وكذلك فعل الرومان ، فعبروا البحار واستعمروا الدول التي وراءها ونقلوا بعض خصائص حضارتهم إليها ومنها فنهم المعماري الذي لا زالت بعض آثاره قائمة إلى اليوم كقلعة بعلبك في لبنان . وتوسع العرب المسلمون شرقاً وغرباً وأنشأوا حضارة شامخة في ظل رسالة الإسلام لا زالت بعض معالمها ماثلة إلى اليوم في إسبانيا وغيرها تبهر السياح .
وباسم الخلافة بسط العثمانيون نفوذَهم على محيطٍ واسع من أقطار الأرض . وهذا ما حاولته فرنسا بقيادة جنرالها نابليون عبر سلسلة من المعارك الدامية الشهيرة أوصلته بعضُها إلى مصر حيث نقل إليها أول مطبعة ولبس مع أهلها العمة وحاول التأثير في مجتمعها ، وصولاً إلى النصف الأول من القرن الماضي حيث تقاسمت العالمَ قوى الاستعمارِ الغربي وأنشأت فوق دوله ، ومنها دول العالمِ العربي والإسلامي ممالكَ وامبراطوريات – إحداها لا تغيب عن أطرافها الشمس – وعملت جاهدةً ، إلى جانب استلاب خيراتها ، على غزوها عقيدياً وثقافياً واجتماعياً .
والعولمةُ الحديثة التي يبشر بها الغرب اليوم بقيادة الولايات المتحدة ، حتى قيل أن العولمة هي (الأمركة) ، بما توافر لها من تكنولوجيا مذهلة وفضائيات صيّرت العالم قرية واحدة هي – في الحقيقة – ليست سوى حالة متطورة لتلك العولمة الممتدة في التاريخ .
وهي ذات وجهين يكمل أحدهما الآخر : عولمة ثقافية ، وعولمة اقتصادية ينقلان – تبعاً – إلى كل بلد حلاّ فيه ، عولمةَ السياسة ..
والعولمة الثقافية تعني تصدير المفاهيم والأسس التي تبتني عليها حياة الأمم ، كالحرية ، والديمقراطية، والسلام ، والأمن ، والسلوك الاجتماعي ، إلى بقية بلدان العالم بالتفسير والرؤية والقناعة الغربية ، وهنا تكمن أولى مخاطرِ العولمةِ ومفاسدِها . فالأمم والشعوب قد تختلف ، وربما اختلافاً كبيراً ، في قناعاتها وتفسيرها لهذه المفاهيم وذلك تبعاً لاختلاف حضاراتها وثقافاتها التي تكونت عبر التاريخ من العقائد والتراث والبيئة والعادات والآداب الاجتماعية لكلٍّ منها .
فما تعتبره الثقافة الغربية من صميم الحرية الشخصية كحق المرأة في الإجهاض الذي أقرته الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة / تموز عام 1999 م.، تعتبره الشريعة الإسلامية وكذلك المسيحية جريمة وتجنياً لأنه يحرم الجنين هبةَ الحياة التي وهبها له الخالق ..
والقانون الغربي الذي يحرِّرُ الأبناءَ في الأسرة من مسائلةِ الآباء إلى حدِّ تخويلهم إيداعَ آبائهم السجن لمجرد تعنيفٍ أو لطمةٍ غاضبةٍ أقدم عليها الأب مثلاً ، ٍتعتبره الشريعة الإسلامية قانوناً عاقاً ومخلاً بالآداب .
وكعقوبة الإعدام التي تحضرها دول غربية مؤثرةً حياةَ الجاني ، وتقرُّها ، بشروطها الصارمة طبعاً ، الشريعةُ الإسلاميةُ مؤثرةً أمن المجتمع ، ناهيك عن ما يمس الأخلاق والقيم بشكل فاضح كإباحة العري على الشواطئ ، والترخيص لبيوت بيع الهوى ، وتشريع الشذوذ الجنسي ، واعتباره زواجاً يحترمه القانون بل وحتى المؤسسة الدينية في بعض البلدان الغربية كبريطانيا وألمانيا ، (ونسجل هنا باحترام إدانة البابا مثل هذا الزواج الذي يندى لمجرد ذكره الجبين) .
وعلى هذا فإن العولمة الثقافية الغربية تعني حكماً العمل على ضرب وإلغاء أو في – اقل تقدير تمييع – ثقافات الشعوب الأخرى ، وهو في واقعه نوع من أنواع العنف والتجديف ، والإرهاب الفكري .
وقد لقي من أجل ذلك ممانعة وانتقاداً شديداً حتى من بعض الدول الغربية نفسها كفرنسا : مرةً على لسان وزير ثقافتها في عهد الرئيس ميتران جاك لانغ . وأخيراً في مجلس الشيوخ الفرنسي على لسان وزير خارجيتها الحالي دومينيك دوفيلبان الذي قال : (يجب الأخذ بعين الاعتبار الإحساس بالهيمنة الثقافية التي يمارسها العالم الغربي من خلال نهضة العولمة. ألا يعطي الغرب بذلك الشعور بالرغبة في فرض نمط حياة واحد في كل مكان معرِّضاً بذلك الثقافاتِ والهويات للخطر) وصرح في كلامه أيضاً: (علينا أن نحرص، دون أن تتوارى الحداثة ، بألا نجعلها تبدو كمنافس للتقاليد والديانات) جريدة اللواء – 2/7/2003.
ومع قراءة متأملة للعولمة الثقافية نجد خطاً منها يعمل بشكل مباشر للترويج للعولمة الاقتصادية عبر تكوين وتنشيط الذهنية الاستهلاكية لدى مواطني مملكة العولمة وإقناعهم بوسائل الثقافة الحديثة على اختلافها ، منها ثقافة الفضائيات وجاذبية الدعاية للسلع والمنتجات بأن الحياة ليست سوى متع متواصلة: الأكثر سعادة فيها هو الأكثر قدرة على اغتنام الفرص والعبّ من ألوان اللذائذ الحسية ما يُفعِّل ويزيد في إنتاج الشركات وبالتالي في أرباحها ، وهو بيت القصيد ، فَمَثَلُ المواطن في مملكة العولمة كمثل طفل فاغرٍ فاه لا يملّ الرضاعةَ كما يشبهه (أريك فروم) في كتابه (الهروب من الحرية) .
وأما العولمة الاقتصادية فقد سخّرت الولايات المتحدة ، - حاضنةُ العدد الأكبر من الشركات الرأسمالية في العالم – سخرت لتسويقها وتحويلها واقعاً طموحاً على الأرض (كل) ثقلها السياسي وتأثيرَها المباشر على (كلٍّ) من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (هيئة الرقابة على البنك الدولي) ومنظمة التجارة العالمية ملبسةً مشروعها – بإعلامٍ فائقِ القدرات – مسوحاً حضاريةً وإنسانية جذبت بعض النخب الثقافية في أماكن مختلفة من العالم كصادق العظم الذي دعا في كتابه المشترك مع حسن الحنفي (ما العولمة) إلى مماشاةِ المشروعِ العولمي ككل بعد أن أفاض في التحذير منه متخيلاً أن المماشاة من شأنها أن تخلق وسطية ثقافية تلتقي عندها كل الثقافات المتباينة . غير أن نظرةً سريعة في ملف العولمة تزيّف هذا الإعلام وتكشف عن أن تلك المسوح إنما تخفي داخلها وحشاً ضارياً ليس إلا .
فمنطلقُ العولمة كفكرة ، ما كان أصلاً بدوافعَ إنسانيةٍ وحضارية ، وإنما لعوامل مختلفة راحت بعد الحرب العالمية الثانية تتبلور وتقف في وجه شركات رأس المال كازدياد الاهتمام البيئي لدى المجتمعات الغربية الذي دفع بها إلى الضغط باستمرار على حكوماتها لتتخذ إجراءات صارمة بحق الشركات والمصانع التي باتت سبباً رئيسياً في تلويث البيئة وتهديد الأمن الصحي في العواصم والمدن .
وارتفاعِ وتيرة المطالبة بزيادة الأجور والضمان الصحي الاجتماعي للعمال بتأثير من الفكر البروليتاري والاشتراكي الذي قادته النقابات العمالية . ودخولِ منتجات رخيصة متدنيةِ الأسعار إلى الأسواق التجارية لاقت رواجاً واسعاً كالمنتجات الصينية والكورية . الأمر الذي أدى مع الوقت إلى تقلص مستمر في أرباح الشركات واضطر بعضها إلى تغيير جهتها الصناعية أو حتى التوقف عن العمل .. فرأت على أثر ذلك كله في فكرة العولمة والزحف صوب الجنوب سيما بلدان العالم الثالث حيث تتوافر المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة ، وسيلةً للخلاص من هذه الضغوط وطريقاً يفتح لها باب الثراء الفاحش .
وكما أن منطلقَ هذا المشروع العولمي لم يكن منطلقاً إنسانياً فإنك لا تجد في آليته العملية أيَّةَ مسحة إنسانية وإنما تجد هذه الآلية تعمل بحس وصولي ونفعي بحت . فالشروط التي اعتمدتها المنظمة التجارية – دينمو المشروع – لقبول دولةٍ ما في عضويتها ، تُلزِم الدولةَ العضوَ بعدم دعمها لمنتجاتها الوطنية وبتخفيض رسومها الجمركية على البضائع المستوردة وعلى أجور الشحن وأصل تكلفته ، ضمن ما يسمى بعمليات التبادل الحر ، ما يمنح هذه الشركات امتيازاتٍ وتسهيلاتٍ إضافيةً يصعب معها بل ويستحيل على الشركات الوطنية أن تنافسها ما سيضطرها إلى التوقف في نهاية المطاف وتسريح عمالها وإلقاء عبء إضافيٍّ على الدولة .
وستجد الدولة العضو نفسها مع الأيام وأمام التلويح بعصا العقوبات التي استنّتها منظمة التجارة بحق المتخلف عن سداد الديون ، ستجد نفسها مضطرة إما إلى فرض ضرائب وأسعار جديدة ، أو إلى تخفيض الإنفاق على المشاريع والخدمات الوطنية أو إليهما معاً كما هو الحاصل اليوم في لبنان (الذي وقع على معاهدة المنظمة التجارية في التسعينات) ، فها هي الضريبة تكاد تصاحب المواطن كما يصاحبه ظله بدءا من ورقة المختار وختماً بالتـ ، ف ، A، مروراً بما لا يخطر من هذه الضرائب على بال . وأما تخفيض الإنفاق على المشاريع فهو باد للعيان في حياة المواطنين كالتقنين الصارم في الكهرباء الذي يشهده لبنان بين الفينة والأخرى ، وإهمال النفايات التي باتت جبالاً في بعض كورنيشات النزهة والاستراحة ، وجمّلت بالألوان الزاهية وعطور المخلفات ، ودخان الحرائق طرق الكثير من مدن وبلدات جنوبنا الحبيب .
إن مشروع العولمة الاقتصادي لن يكون يوماً طوقَ نجاة وخشبةَ خلاصٍ للدول الفقيرة فضلاً عن أن يكون طريقاً إلى التطور والرخاء كما يمنّيها به إعلامُه ، فلغته ليست سوى لغة الحساب والأرقام . واهدافه ليست سوى الكسب وتضخيم الأرباح . وكل مؤسساته وشركات رأس المال فيه لا تمتلك قلباً ومشاعر وإنما تمتلك أنياباً ومخالب . مبدؤُها في التعاطي على الدوام إنتاجُ أجود سلعة ، بأكبر كمية وأرخص تكلفة .
هذه على سبيل المثال شركة الحذاء الرياضي المعروف (نايك) تدفع للاعب كرة السلة الشهير (مايكل جوردن) ملايين الدولارات لمجرد لبسه وترويجه لحذائها في حين أنها تدفع للولد الأندونيسي الذي تستخدمه لصناعة هذا الحذاء 12 سنتاً فقط في الساعة . وهي حين تجد كلفة العامل في بلد آخر غير أندونيسيا أرخصَ منه فيها فسوف لن تتردد في الرحيل عنها . وهكذا يتنقل المصنع من بلد لآخر تبعاً لبوصلة السنت والدولار لا للّفتة الإنسانية التي توهم الشركات الدول الفقيرة وشعوبها أنها توليها إياها .
ومن المفيد هنا أن نذكر أن مشروع العولمة قد أفضى وهو لا زال في بدايته إلى حصر 80 % من الموارد العالمية بأيدي خمس سكان العالم فقط وهم من أبناء الدول الصناعية علماً بأنهم ليسوا بمستوى معيشي واحد بطبيعة الحال، بل هناك منهم عاطلون عن العمل يبلغ عددهم في الولايات المتحدة على سبيل المثال زهاء عشرة ملايين عاطل .
وأن 358 شخصاً من كبار رجال الأعمال في العالم معظمهم من الدول الصناعية الكبرى وبالأخص الولايات المتحدة تساوي ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاث ماية مليون شخص من فقراء العالم أي أزيد من نصف سكانه .
وكما يقول برنار كاسين من (لومند دبلوماتيك) ! : (إن العولمة لا تقلص الفوارق الاجتماعية بل على العكس تضاعفها وتزيد منها سواء بين الأمم أو داخل كل حيز قومي على حده . ويعتبر أن الديمقراطية هي أحد ضحايا العولمة لما تفضي إليه من تمييز متنام بين المنتجين والمستهلكين . (وتدل معلومات صندوق الأمم المتحدة للتنمية على أن الاتجاه القائم حالياً هو تزايد فقر الدول النامية لانعدام التناسب بين الاستثمارات الخارجية والحاجات المحلية).
فالعولمة إذاً تسير بشعوب العالم نحو طبقية تتصاعد مع الأيام ، على أساس المال والمداخيل ، فوارقُها وشدةُ التباين فيها وليس في حسابها الشأن الإنساني بحال بل إنها لن تحقق نموذجها الإقتصادي الأمثل وكما تفيد الكاتبة سوسان جورج في كتابها (مؤامرة الغرب الكبرى " تقرير لوجانو ") إلا بالسعي إلى تخفيض عدد سكان العالم من ستة مليارات إلى أربعة لا تهمها الوسيلة التي تستخدم للوصول إلى ذلك بدءا من التعقيم وإطلاق حرية الإجهاض إلى إشعال الحروب والصراعات وزيادة الأوبئة والكوارث والأمراض الفتاكة.
إن لبنان واحد من بلدان العالم الثالث التي تواجه شبح العولمة المخيف وما يخفيه لها من مزيد من الهموم والمعاناة .. وليس أمام مجموعة الدول العربية والإسلامية إذا أرادت إبعاد هذا الشبح وشروره وتحصين وحماية نفسها واقتصادها من سطوته وأطماعه في المنطقة سوى أن تفيق من رقدتها وتستعيد الثقة بنفسها وتتسلح بالإرادة الصلبة وتعمل على حشد إمكاناتها وقدراتها : كل دولة دولة من جهة فلبناننا مثلاً يعود ضمن خطط مدروسة إلى أرضه الطيبة يبني في وديانها ووهداتها لماء السماء الكريمة سدوداً تحفظها من الضياع ويعمل على توسيع رقعتها الزراعية وتجديد وتكثير ناتجها الزراعي ، وتشجيع المشغل والمعمل الذي يستقبل الفائض منه ويحوله إلى صناعة وطنية (ويعنى بجماله الطبيعي ولوحاته الساحرة ومعالمه السياحية) ، ويحكم الرقابة على وزاراته ودوائره الحكومية ومؤسساته لوقف نزيف الهدر والتسرب فيها ضمن مشروع الإصلاح الإداري الذي صفق له يوماً كل لبنان ثم غرق فجأة في خيبة أمل مريرة ، ونفضِ غبار الاسترخاء والترهل عن تلك المؤسسات والدوائر وتحويلها إلى ورشات عمل دؤوب تبني اقتصاد الوطن وتنقذ الشعب والبلاد من كارثة لن تتلافاها المقابلات التلفزيونية والإعلامُ التلميعي في الجرائد والمجلات صديق المال والنفوذ السياسي في بلدنا الذي ملّه الشعب اللبناني ، المتطلع إلى رؤية عمل يتطور ، وواقع بائس يتغير لصالح كل أبنائه..
هذا كله في خط موازٍ لبناء المجتمع اللبناني تربوياً ووطنياً تتعاون على إنجازه كل المؤسسات بدأً من الأسرة وانتهاءً بالوزارات وفروعها مروراً بالمدارس والجامعات والأندية والجمعيات الأهلية .
ثم كافة الدول العربية والإسلامية كهيئة مجتمعة من جهة أخرى بأن تسارع إلى تعزيز القواسم المشتركة فيما بينها : الثقافية منها كاحترام الدول العربية للغتهم الأم في أقل تقدير ، التي نراها ، ويا للأسف مصونة في إذاعات الغرب الناطقة باللغة العربية ، ومُنْتَهَكَةً مهشمةً – تستدر دموع الخليل وسيبويه – في معظم إذاعاتنا العربية .
وإحضار ثروتها العقيدية السمحة وآداب شعوبها الاجتماعية ، وقيم تراثها الوطني إلى مراحل الدراسة على اختلافها ، وإلى كتاب الثقافة العام ، والمجلة المتداولة سيما مجلة الطفل والشباب ، وتحبيب المجتمع ككل بالقراءة ولذة الاطلاع ، الأمر الذي نجح به الغرب إلى حد كبير وكان سبباً هاماً من أسباب انتشار الوعي في مجتمعاتهم وبناء الديمقراطية فيها.
والاقتصادية بالانفتاح على عمقها الجغرافي بما في باطنها من كنوز ، وما يمتد على ترابها من خصوبة، والتنسيق فيما بينها في مجال زراعة الأرض وحسن استثمارها فيما يحقق التكامل والأمن الغذائي لديها وإحياء مشروع السوق المشتركة الذي بات مشروعاً مصيرياً يتفاقم الشعور بالحاجة إليه يوماً بعد يوم في عالم الشركات والكتل الاقتصادية التي لا ترحم ليقود حركة اقتصادية فاعلة أو يكون في الأقل سداً أمام ضغوط السوق العالمية المتزايدة .
وعجباً بنت الدول الأوروبية سوقها المشتركة بخطى ثابتة على ما بينها من تباين اللغة ودموية التاريخ وهشاشة الانتماء الديني ، ويبقى مشروع السوق العربية حبراً على ورق لم تخط الدول العربية على طريق إنجازه وتحويله إلى واقع خطوة واحدة على ما بينها من وحدة اللغة والعقيدة والتاريخ وتقارب العادات والآداب الشعبية .
والعسكرية : بإحياء معاهدة الدفاع المشترك ، وزرع روح المقاومة في نفوس الناشئة والشباب من خلال التثقيف الوطني والخدمة العسكرية . وإنه لذو مغزى وطني جميل ومعبّر – في هذا السياق – ما تعتمده دولة عربية شقيقة من زيٍّ موحدٍ بشكل البزة العسكرية لطلاب مدارسها في كل مراحلهم الدراسية : يكبر الطفل ويختزن في صدره إلى جانب العلم والمعرفة رجولة وروحاً وطنية .
وإذا كان سلوك هذا الطريق وعراً بسبب مواقف الحكام المتخاذلة فليس أمام شعوبنا وقواها الحيّة الذي يرتسم هذا الطريق هدفاً طموحاً أمام أبنائها ، سوى الضغط باتجاهه مهما واجهت من مصاعب وتضحيات فالأمر إنما يعنيها هي والمخاطر تحدق بها وبمستقبل أجيالها ، وإن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة في الحقيقة هي ليست أنياب العولمة وإرهاب شارون وترسانة إسرائيل العسكرية وحسب ، وإنما هي قدرة شعوبنا على سلوك هذا الطريق والمضي فيه قدماً متسلحاً بالإرادة الصلبة:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
إن الإرادة تصنع المعجزات . وقد استطاع مغزل غاندي – بالأمس – أن يقهر شركات رأس المال البريطانية ويطرد الاستعمار البريطاني ذليلاً من بلاده .
فحري بأمة يعيش في نبضها محمد وعلي والحسين والسيد المسيح أن تقف شامخة فوق أرضها تتكسر على جدران صمودها مخططات الاحتلال والعولمة الأمريكية والإرهاب والنزق الصهيوني .
وتاريخها في مواطن التحدي مليء بالشواهد الشامخة على قوة إرادتها بدءاً من صدّ أمواج المغول وانتهاءً بسحق أبناء الجنوب الاحتلال وطرد جيشه ذليلاً من أرضهم .
إن أمتنا بمخزونها العقيدي الثري وتجارب نضالها الوطني المديد ليست جديرة بالوقوف صلبة أمام الهجمة الأمريكية الصهيونية الراهنة وحسب ، بل وأن تبدأ مشروع التغيير وبناء الذات وأولى مهماته العمل المسؤول الجاد في توحيد شرائح المجتمع وطاقاته تحت راية المصلحة العليا والهدف المشترك مهما تباينت وجهات النظر وأنماط العيش لدى أبنائه في مسائل الحياة على اختلافها بدءا من مجتمع البلدة والمدينة ، ومروراً بأبناء الوطن وفرقائه وهيئاته وقواه المختلفة ، وانتهاء بمجتمع الأمة . وإن فشل أي فريق أو حزب في ممارسة عملٍ أو نهجٍ توحيدي خلوق سيما داخل مدينة صغيرة كالنبطية مثلاً ليشكك حكماً في جدية هذا الحزب وقدرته على توحيد أمة بكاملها .
إن أمتنا حين تملأ العقيدةُ وآداب العقيدةِ قلبَها لجديرة بالتغيير وبناء الذات والنجاح في هذا الطريق ، بل وجديرة أيضاً أن تقدم هي للعالم مشروعَ العولمة .
المشروعَ الذي نجد معالمه الإنسانية والحضارية واضحة في دولة علي عليه السلام وحاكميته :عولمةً تقدس الحياة : من أحيى نفساً كأنما أحيى الناس جميعاً .
وتحترمُ الإنسان : الناس {إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق} .وتقرُ بالتنوع بين البشر: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل}. وتدعو إلى التعارف فيما بينهم وتبادلِ الخبرات {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وانتقاءِ الأصلح والأكثر نفعاً للناس على أساس: أن خير الناس من نفع الناس في حركة تكامل وتقدم دائم إلى الأمام .
وتدينُ إلغاءَ الآخر بل وإيذاءه (والانتقاص منه) وجرح كرامته ما دام يحترم آداب التعايش . يقول الإمام علي (ع) : من آذى ذمياً ( أي مواطناً على غير دين الدولة) فقد آذاني . وجعل الحوار لغة التفاهم وحل المشاكل بين الفرقاء لا القوة والعنجهية ووسائل القمع . { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم}.
عولمةً سياستُها العدل بين الناس يتساوى فيها الجميع أمام القانون لا سياسةُث الخداع والكيد واللعب على الألفاظ وسحق القيم فداء للمصالح الذاتية أو سياسيةُ المحاباةِ والكيل بمكيالين محلياً أو عالمياً: ترسانةُ إسرائيل النووية خارج الرقابة العالمية ، والمفاعلُ النووي العراقي يضربُ يوماً ، وتُهَدَّدُ إيران اليوم لمجرد الاشتباه بأنها تعد برنامجاً نووياً .
الحاكم أبٌ للرعية يواسيهم بنفسه ولا يتميز عليهم في مستوى العيش : (أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم خشونة العيش ومكاره الدهر) .
هو وجهازُ دولته خليةُ نحلٍ دؤوب تعمل في خدمة الشعب ورفع مستواه المعيشي :
إعلامها حرّ: عالمياً: لا يقلب الحقائق دون خجل فيجعل مقاومة المسحوق إرهاباً ومصاص الدماء بطل سلام .
وحرّ . محلياً . لا يضعفُ أمام المال أو سطوةِ السياسة . سعادةُ قلمه نصرةُ الحقيقة ورفعُ صوت المظلوم . من صميم مهماته إشاعة الإيمان والفضيلة والترويج للخلق الكريم في أوساط المجتمع والأمة .
عولمةً أرسى نواتَها عليٌّ عليه السلام قبل قرون طويلة .
ولئن استُشهد وهو يكافح على طريق إتمامها وإنجاحها لصالح شعبه وشعوب العالم القادمة .. فقد ترك تجربتها سطوراً مضيئةً تشجيهم عندما يقرأون صفحات التاريخ ، وتهزُّ وجدانهم بالأماني العذاب عندما ينظرون إلى المستقبل متسائلين – وسط عالم تُضنيه الحروب وإراقة الدماء وسطوة الحكام وقهر الأحرار ويشيع فيه الفقر والمجاعات والعلائق الاجتماعية المتدهورة .
هل لتجربة علي عليه السلام أن تعود وتحتضن الشعوب المقهورة بيديها الحانيتين وتمسح جراحها وتنهي آلامها ومآسيها الطويلة ؟!.
يجيبنا الكتاب الذي يعشقه علي ويسمر كلَّ ليلة مع دموعه على قراءة آياته : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }.
فيبسطون على كل الأرض كما بشرت بذلك كل الأديان والمذاهب عبر سيول من الأحاديث والأخبار بقيادة عملاق التاريخ حفيد علي عليه السلام مشروع العولمة السعيد لصالح كل شعوب العالم بعد أن يمزق مشروع العولمة العاتي المزيف .
تهديد العولمة للأخلاق الإسلامية :
كما أن العولمة تهدد النظام الأخلاقي الإسلامي، فمن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gender بدل كلمة (sex) يقول الدكتور محمد الركن في مجلة المستقبل الإسلامية: (ومن المسائل الجديدة المستحدثة التي تحاول بعض المنظمات والحكومات الغربية فرضها وإلزام شعوب العالم الأخرى بوجهة نظرهم فيها مسألة تعريف الجنس والأسرة، ومما حداني للحديث حول هذا الموضوع ما شاهدته في المستندات الرسمية، فقد تمت ترجمة الجنس الغربي إلى مصطلح Gender، باللغة الإنجليزية، وهي تنم عن عدم إلمام بما يسعى غليه الغربيون في فرض ثقافتهم على الآخرين، فلفظة الجندر لا تتطابق تمامًا مع لفظة (sex) بل إن لها أبعادًا خطيرًا قلمًا تشبه إليها.
والموسوعة البريطانية تعرف الجندر بأنه : (لقبل المرء لذاته، وتعريفه لنفسه كشيء متميز عن جنسه البيولوجي الحقيقي) .. فهناك من الأشخاص من يرون أن لا صلة بين الجنس والجندر، إذ أن ملامح الإنسان البيولوجي الخارجية الجنسية مختلفة عن الإحساس الشخصي الداخلي لذاته أو للجندر .. بعبارة أخرى أكثر تبسيطًا فأنا الجندر بعبارتهم تنصرف إلى غير الذر والأنثى كجنسين فقط. ونحن لا نعرف ولا نقر في ديننا وثقافتنا إلا بهما، فالجندر تشمل الشاذين جنسيًا من سحاقيات ولواطيين ومنحولي الجنس، إذ أنها ترتبط بتعريف المرء لذاته وهويته وليس بجنسه البيولوجي .. ومن هنا تأتي خطورة المسألة ولهذا نرى في المؤتمرات الدولية تسابقًا محمومًا من المنظومات الغربية وبعض الحكومات الغربية، وخصوصًا الأوروبية لفرض لفظة Gender بدل لفظ (sex) التي تنصرف إلى الذكر والأنثى فقط، وذلك عند الحديث عن حقوق الإنسان أو محاولة التمييز ضد الإنسان أو تجريم أفعال ترتكب ضد الإنسان).
تهديد العولمة لمبادئ الشريعة الإسلامية :
كما أن العولمة تحمل في طياتها نقضًا لأحكام الشريعة الإسلامية بفرضها مبادئ تخالف الشريعة ومن الأمثلة :
تسويق العولمة توهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا قضية فرض مفهوم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فهذا المفهوم منصوص عليه في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ومقتضاه إزالة جميع الفوارق على الأحكام والحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي يتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تقوم على أساس الفرق الفطري والخلقي بين الرجل والمرأة، ذلك الفرق الذي يقتضي اختلافًا في بعض الأحكام والحقوق والواجبات بحسب اختلاف الاستعدادات الفطرية.
والمؤهلات التكوينية بينهما، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية تقرر أن مبدأ عدم المساواة المطلقة بين الرجال والنساء أمر قطعي الثبوت والدلالة ولا خلاف فيه، ولا مجال فيه للاجتهاد .. وفي المساواة المطلقة لا يقتضي نفي مطلق المساواة كما لا يخفى.
الشريعة الإسلامية تقوم على أساس الفروق بين الجنسين:
على هذا قام الفقه الإسلامي ودلت على ذلك نصوص الكتابة والسنة وإجماع العلماء وبدءًا من باب الطهارة إلى باب الشهادات، آخر أبواب الفقه الإسلامي، تجد المرأة والرجل يجتمعان في أحكام ويختلفان في أحكام أخرى .. ومن صدور الاختلافات ما جاء في أحكام الحيض والنفاس، وأحكام لباس المر’ وفي الصلاة وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها وكون صلاتها في بيتها أفضل، وأنها ممنوعة من الآذان بإجماع العلماء، ومن إمامة الرجال في الصلاة وخطبة الجمعة لهم بإجماع العلماء وأنها تصفق لتنبيه الإمام إذا سهى ولا تسبح كالرجال، وأن صفوف النساء في الصلاة وراء صفوف الرجال ولا يجوز لقدمهن ولاختلاطهن بصفوف الرجال بإجماع الفقهاء، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها، أخرجها مسلم، بعكس الرجال.
ومن الأمثلة أيضًا على الاختلاف إحرامها للحج والعمرة في بعض الأحكام، وفي عدم وجوب الجهاد عليها وفي اختلاف أحكام الميراث والنفقة وجعل الطلاق بين الرجل في الأصل، وتقديمها في الحضانة في الجملة وفي تحريم الخلوة بها وفي تحريم التبرج وعدم قبول شهادتها في الحدود والدماء.
وهذا كله على سبيل المثال وإلا فثمة أحكام كثيرة غير هذه قد أجمع العلماء على أن المرأة لا تتساوى فيها والرجل، كما دل على ذلك صريح قوله سبحانه وتعالى: (وليس الذكر كالأنثى) [آل عمران: 36].
وأما العولمة فإنها كما ترفض التمييز بين الناس على أساس الإيمان والكفر ترفض أيضًا التمييز بين الرجل والمرأة مناقضة لأحكام الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس التقسيم الوظيفي بين الرجل والمرأة في المجتمع وأن دور كل منهما مكمل لدور الآخر في النظام الاجتماعي الإسلامي بناء على أساس أن التكوين الخلقي للمرأة يختلف عن الرجل وأن مؤهلاتها واستعداداتها الفطرية تقتضي توليها دورًا في المجتمع يختلف عن دور الرجل، وهو الدور الأسري.
إن الحقائق العلمية لتؤكد الفرق البيولوجي الأساسي بين الجنسين ولا بأس أن أستشهد هنا بما أورده مؤلفا كتاب جنس الدماغ (Brainsex) . الدكتور في علم الوراثة (أن غويره، ديفيد جييل)، وهو في الحقيقة مؤلف اشترك فيه أكثر من 350 اختصاصي على رأسهم رائدة علم الفروق الدكتورة (كوراين هت) لنهما نقلا نتيجة إجابات كل هؤلاء الأخصائيين في الكتاب.
يقول مؤلفا الكتاب في المقدمة : (ثمت صياغة المادة الأساسية لهذا الكتاب من أبحاث قام بها علماء كثيرون من جميع أنحاء العالم) .. ثم قالا في وصف وفرق للحقيقة التي توصلا إليها بعد أبحاث مضنية : (الرجال مختلفون عن النساء) وهم لا يتساوون إلا في عضويتهم المشتركة في الجنس البشري .. والادعاء بأنهم متماثلون في القدرات والمهارات والسلوك تعني بأننا نقوم ببناء مجتمع يرتكز على كذبة بيولوجية وعلمية، فالجنسان مختلفان لأن أدمغتهم تختلف عن بعضهما، فالدماغ وهو العضو الذي يضطلع بالمهام الإرادية والعاطفية في الحياة، قد تم تركيبه بصورة مختلفة عند كل منهما، والذي ينتج عنه في النهاية اختلاف في المفاهيم والأولويات والسلوك.
وإنما أصّلت في هذا المثال لأن حمى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة أضحت موجة آخذة في الصعود في الخليج، منساقة مع تنامي الدعوة إلى العولمة الثقافية والفكرية، ولأنها قضية بالغة الخطورة لأن الغرب يسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل النظام الاجتماعي في المجتمعات الخليجية وفقًا للمفاهيم الغربية.
إنه مثال واضح لما تفرضه العولمة من مبادئ وتشريعات تناقض الشريعة الإسلامية ومبادئها.
تهديد العولمة للمفاهيم الأساسية في العقيدة الإسلامية :
كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافيًا وفكريًا.
فالكون ـ في نظر العولمة الثقافية والفكرية ـ لم يخلق تسخيرًا للإنسان ، ليكون ميدان امتحان للناس ولابتلائهم أيهم أحسن عملاً؛ والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى، والحياة ليست صراعًا ابتدأ منذ خلق الإنسان بين الحق الذي يمثله الرسل والأنبياء وأتباعهم الذين يدعون إلى سبيل الله تعالى بالوحي، وبين الباطل الذي يدعو إليه الشيطان .. والشيطان ليس هو الذي يقود ـ في الحقيقة ـ معركة الباطل ويجند لها جنوده من الرجال والنساء. كما قال سبحانه وتعالى: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) [الإسراء: 64]. وقال سبحانه وتعالى: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزًا) [مريم: 83]، وقال الله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغون فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفًا) [النساء: 76]، وقال سبحانه : (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك ) [الحشر: 16]. هذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة.
كما أن الموقف من أمم الأرض ـ في نظر العولمة الفكرية والثقافية ـ ليس على أساس المفهوم القرآني القائم على التقسيم العقائدي إلى :
أ ـ (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وأنه تجب موالاة المسلم لأخيه المسلم ونصرته، وأن يكونوا أمة واحدة تجمعهما العقيدة ولا تفرقهما أي وشيجة أخرى.
ب ـ وإلى كفار تجري عليهم الأحكام الشرعية بحسب علاقتهم بالمسلمين.
هذه المفاهيم القرآنية الإسلامية الأساسية كلها تنقضها العولمة الفكرية والثقافية من أصلها، وتهدمها من أساسها ـ فالكون ـ في نظر العولمة ـ ما هو إلا ميدان تنافس على المصالح الدنيوية، والإنسان حيوان دائب البحث عن ملذاته وشهواته ومنافعه، وليست الحياة سوى فرصة قصيرة لا ينبغي أ، تضيع في غير اللذة والشهرة والجنس والمال والثروة والجمال، وليس وراءها شيء آخر، وما هي إلا سباق بين الناس في هذا الميدان لا ينقصه سوى تعظيم هذه اللعبة لئلا تفسد على الجميع، ولا يصح التفريق بين الناس على أساس عقائدهم فهم أمة واحدة في الإنسانية تجري عليهم أحكام واحدة لا يجوز بحال أن تتفاوت هذه الأحكام بسبب الدين أو العقيدة.
إن خطورة العولمة الفكرية والثقافية تكمن في أنها تعمل على إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية التي تشكل أصول عقيدة المسلم . بل تنفضها وتستعيض عنها بمفاهيم غريبة كافرة ملحدة لا تؤمن بوجوب عبادة الله واتباع الوحي والاستعداد للآخرة.
تهديد العولمة لأصل العقيدة الإسلامية :
لعل من أخطر ما تحمله العولمة هو تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، وذلك لأن العولمة تشتمل على الدعوة إلى وحدة الأديان، وهي دعوة تنفض عقيدة الإسلام من أساسها وتهدمها من أصلها، لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتعبير ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي.
والعولمة تحمل في طياتها اعتبار الأديان كلها سواء، وإن ألحق في هذه الدائرة نسبي يحسب اعتقاد كل أمة .. ولا يصح في العولمة الفكرية والثقافية اعتبار دين الإسلام هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، ولهذا تشجع العولمة ما يسمى (حوار الأديان) لا على أساس دعوة الأديان الأخرى إلى الإسلام بل على أساس إزالة التمييز بين الإسلام وغيره بالحوار الذي يتوقعون أنه سيحمل المسلمين على التنازل عن اعتزازهم بدينهم واعتقادهم ببطلان غيره، وبذلك يزول التعصب وتتقارب الأديان .. وتنجلي خطورة هذه الدعوة في كونها تنفض عقد الإسلام من أصله، فعقد الإسلام لا يستقيم إلا مع اعتقاد بطلان كل الأديان الأخرى، والإيمان لا يعد صحيحًا إلا على أساس قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرين لا أعبد ما تعبدون) [الكافرون: 1 ـ 2]، أي باعتقاد كفر كل من يعبد غير الله تعالى أو بزعم أنه يعبد الله تعالى بغير دين الإسلام وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [آل عمران : 85]، وقوله: (إن الدين عند الله الإسلام) [آل عمران : 19].
كما يعبر عن هذه الحقيقة علماء الإسلام بأن من نواقض الإسلام من لم يكفر المشركين والكفار أو شك في كفرهم أو صحح دينهم .. والكفار هم أتباع كل دين غير دين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وقولهم : إن من نواقض الإسلام أيضًا من اعتقد جواز الخروج عن شريعة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
أهداف العولمة :
1 ـ محاولة سيطرة قيم وعادات وثقافات العالم الغربي على بقية دول العالم، خاصة الداعي منها وإذابة خصائصها.
2 ـ تهميش تميز دين الإسلام، وإزالة الحدود الفاصلة بينه وبين غيره من الأديان الباطلة تمهيدًا لشن هجوم على مبادئه وتعليمه وصد الناس عن الإيمان به.
3 ـ فرض مفهوم نهاية التاريخ بانتصار قيم العالم الرأسمالي الغربي انتصارًا نهائيًا، والتسليم بلزوم تعليم القيادة البشرية إلى ثقافة الغرب إلى الأبد.
4 ـ إبقاء حال الهيمنة الغربية ـ بأعمدتها المذكورة آنفًا ـ أطول فترة ممكنة تحت شعار مصطلح العولمة.
هوية بلا هوية :
وباختصار العولمة هي في الحقيقة (هوية بلا هوية) وهدفها باختصار تفريغ ثقافة (الغير) من محتواها واستدراجها إلى الثقافة الغربية بحيلة وشعار مزيف يطلق عليه اسم (العولمة) لأنه لو قيل للعالم (الأمركة) لنفر كثير من الناس من هذه الدعوى، فاستبدل باسم (العولمة) فكأنهم يقولون تعالوا لنصير جميعًا عالمًا واحدًا، وننصهر في ثقافة واحدة ونحتكم إلى قوانين عالمية واحدة وتسيرنا ثقافة وعادات واحدة أو متقاربة حتى نتعايش ونتفاهم ولا تقع بيننا الحروب .. الخ، حتى إذا وقع المدعوون في هذا الفخ اكتشفوا أنهم في قفص الأمركة والعالم الغربي، ثم وجدوا اللافتة التي تحمل اسم (العولمة) تساقطت حروفها واختفت كهيئة الحبر السري، وظهر من تحتها اسم جديد وشعار جديد هو (التغريب) واكتشف المخدوعون أن حضارتهما سلبت من حيث لا يشعرون وثقافاتهم ذابت من حيث لا يعلمون وهويتهم طمست بالتدريج من حيث لا يدرون.
إذن العولمة في النهاية هي نتيجة انهيار نظام عالمي كان يقوم على (القطبية الثنائية) بانهيار أحد قطبيه ـ وهو الاتحاد السوفياتي ـ وسيطرة قطب واحد وأخذ يهيمن بانتهاء الحرب الباردة على العالم سياسيًا وعسكريًا .
هذا القطب الواحد ـ كما أشرنا في مطلع هذه المقالة ـ يستخدم آلات كثيرة خداعة للسيطرة الفكرية والثقافية على العالم تحت شعار كبير اسمه (العولمة) .. وقد بدأت تظهر آثار سياسية هيمنة وسيطرة القطب الواحد (دول القلب) بملامح حملة تغريب الإنسان في أفكاره ومنهاج تعليمه وفي طراز حياته وفي طعامه وشرابه حتى في صورته الظاهرية وشكله الخارجي التي أصبحت ظاهرة منتشرة في شباب اليوم الذي يحمل جراثيم التغريب، باتت هذه القبعات الجديدة تذكرنا بالقبعة التي فرضها أتاتورك على الشعب التركي عندما أعلن أول خطوات الانهزام أمام التغريب عند بدء عصر الانحطاط أول هذا القرن.
خطر العولمة الثقافية

حامد عبد الله العلي

الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :
فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين بعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية هي في ثوابتها من لأن الدين ليس أمرًا مفصولاً عن الثقافة.
أعمدة الهيمنة الأربعة :
ولقد أصبح من الواضح في تحميل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن العولمة ما هي إلا أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب (الولايات المتحدة وأوروبا)، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي، ما حوتها من العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقًا مريحة أو ساحة مصالح لدول القلب أو ثقلها بهذه العمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة ببقاء تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.
وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
الشريعة الدولية: حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في (الأمم المتحدة) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم، ولم يعد بهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشريعة الدولية) فتصدر قرارًا من مجلس الأمن لعقاب من تريد .. لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكًا لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة على تحريك الشرعية، هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها. قانون الهيمنة والسيطرة.
السلاح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها.
والخامات: مثل النفط والقمح، وبوسيلة هذا العمد تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضًا في الدولة الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.
والعولمة تعتمد على محورين أساسيين :
المحور الأول : التجارة العالمية .
المحور الثاني : الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .
والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغربية إلى أسواق العالم، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب كما تقدم والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي.
الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة:
الأولى : الموقف القابل للعولمة الذائب فيها والمؤيد لها تأييدًا مطلقًا .
الثاني: الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً.
الثالث : الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.
الرابع : الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر.
أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع، وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج التعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة ولا بإحداث انقلاب جذري استئصالي.
وأما الموقف الرافض فهو موقف خاسر غير واقعي وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري.
وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي. والذين يعتبرون أنفسهم معتدلين لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييدًا مطلقًا للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي) أيضًا .. وهاتان اللفتتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عمليًا (قص والزق) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعارضة، وما هذا الصنيع إلا تكريس لإلغاء الذات أو لتشويهها لصالح الأجنبي.
وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقالي الحذر، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية، والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.
الموقف الصواب من العولمة :
وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبي صلى الله عليه وسلم : (.. حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وورد في بعض ألفاظه: (ولكن لا تصدقوهم.. ولا تكذبوهم) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب، غير أنه صلى الله عليه وسلم يرفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه.
وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على اعتناء لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد، مما يمكنها عن إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قيامًا بدورها في الشهود الحضاري.
أهم أخطار العولمة :
تعرف العولمة مطلقًا بأنها ظاهرة لانتماء العالمي بمعناه العام، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة ـ الإقليمية والعنصرية والطائفية ـ وغيرها إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح لتجذري وإلغاء القيود التجارية، وتوفير فرص لتتبادل التجاري الواسع محكومًا بقواعد السوق فقط بدون وجود إجراءات حمالية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء الآخر: لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان.. فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصاد على الانتماء المحلي الإقليمي (الديني، العنصري، الطائفي).
لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي ينطوي عليها أهدافها.
الحفاظ على الخصوصيات
لقد آن الأوان للتقارب والتكاتف مع الدول الأوربية وكذلك مع دول الشرق الأقصى وخاصة الصين واليابان وهناك ملحوظة مهمة جدا في هذا المجال, فبالرغم من أن الصينيين واليابانيين يجيدون اللغة الأمريكية (الإنجليزية) إجادة تامة, فإن إجادة لغة الأمريكيين لم تجعل الصينيين واليابانيين يعتنقون الثقافة الأمريكية. لقد تعلموا لغة الأمريكيين ليتعرفوا على العلوم والتكنولوجيا الأمريكية وبعد أن فهموا هذه العلوم جيدا طوروها وأضافوا إليها وقاموا باختراعاتهم واكتشافاتهم التي فاقت التكنولوجيا الأمريكية ولكن الأمر اللافت للنظر والذي يجب أن نقف أمامه طويلا للاسترشاد به هو أن الصينيين واليابانيين لم ينبهروا بالثقافة الأمريكية ولم يتخذوها نهجا لحياتهم ولم يتركوها تؤثر في حياتهم الاجتماعية ولا في عاداتهم وتقاليدهم بل جعلوا بينهم وبين الثقافة الأمريكية سدا منيعا ليحافظوا على خصوصياتهم الثقافية. فهل ننتهج نهجهم ونحذو حذوهم لنحافظ على هويتنا وخصوصياتنا العربية الإسلامية أم نترك ثقافة الماكدونالدز والهامبورجر والكوكاكولا والعنف والاغتصاب والشذوذ الجنسي المباح وسيادة الدولار تطغى وتهيمن على خصوصيات الثقافة الإسلامية المرتكزة على التآخي والإيثار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيتاء ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
وماذا فعلت الدول العربية والإسلامية للحفاظ على خصوصياتها الثقافية وأولها اللغة العربية, لغة القرآن الكريم, التي أصبحت يتيمة في ديارها وأصبح من يجيدها (عملة صعبة) نادرة الوجود لأنها (ممنوعة من الصرف) فلم يعد تدريس اللغة العربية وعلومها يحظى باهتمام العرب والمسلمين الذين تكالبوا على تعليم أولادهم اللغات الأجنبية وأهملوا تدريس اللغة العربية تماما في العقدين الماضيين. إننا نشاهد للأسف الشديد أولادنا يتخلون رويدا رويدا عن هويتهم الثقافية العربية والإسلامية عن جهل ودون إدراك أو دراية بخطورة ما يفعلون في تكالبهم على تعلم اللغة الإنجليزية وفي ارتداء الجينز والكاسكيت الأمريكاني وأكل الهامبورجرز وشرب الكوكاكولا والتهافت على محلات ماكدونالدز وعلى موسيقى الجاز. ويرجع ذلك إلى غياب التوعية الثقافية والتوجيه والإرشاد سواء في المدارس من قبل معلميهم أو في المنزل من قبل والديهم. إن الأهل والأساتذة يحثونهم على إجادة اللغة الإنجليزية ويقولون لهم إن المستقبل والعلم والتكنولوجيا في تعلم لغة الكمبيوتر والإنترنت وإن الذي لا يجيد اللغة الإنجليزية يعتبر جاهلا ولن يكون له أي مستقبل في مجال العلم والتكنولوجيا بل إن الأهل يبذلون قصارى جهدهم حتى يرسلوا أبناءهم إلى الدول الأوربية وعلى الأخص إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستزادة من العلم وللحصول على أعلى الشهادات العلمية في مختلف العلوم الحديثة ويضحون في سبيل تحقيق هذا الهدف بكل ما هو نفيس وغال. فلا عجب أن اهتم أولادنا باللغة الإنجليزية وبدراسة العلوم والتكنولوجيا ومن ثم إهمال اللغة العربية والعلوم الإسلامية وعدم الاكتراث بها مادام كل المطلوب منهم هو الحصول على الدرجة الأدنى التي تسمح لهم بالمرور من سنة دراسية إلى أخرى دون حتى النجاح في اللغة العربية (معظم الدول العربية تجيز نجاح الطالب الذي يحصل على 40% فقط من الدرجات في مادة اللغة العربية).
وقفة مع النفس
إذا أردنا الحفاظ على خصوصياتنا الثقافية فعلينا أن نقف وقفة مع النفس لنعيد حساباتنا ونؤكد هويتنا ولنبدأ من البداية, من أول مرحلة التعليم في مدارسنا والتأكيد على تدريس لغتنا العربية وتدريس تراثنا العربي الإسلامي الثري إلى جانب تدريس اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة والتكنولوجيا. يجب أن يكون هناك توازن في تدريس اللغة العربية والتراث العربي والإسلامي وتدريس المواد العلمية واللغات الأجنبية وألا تطغى هذه الأخيرة على الأولى. كذلك يجب تنمية الوعي القومي والانتماء العربي الإسلامي في نفوس أولادنا وإقناعهم بأن هناك فرقا شاسعا بين تعلم لغات وعلوم وحضارة أمة من الأمم واعتناق هذه الحضارة والانتماء إليها. ولنأخذ مثال الدول الشرق آسيوية الصين واليابان والهند وكذلك دول أمريكا اللاتينية التي درست وأجادت اللغة الإنجليزية دون الانتماء والذوبان في الثقافة الأمريكية.
وهنا يبرز دور المثقفين من العلماء المسلمين للتأثير على الحكومات وعلى المسئولين عن التربية والتعليم في الدول العربية الإسلامية للتركيز على تدريس اللغة العربية ورفع شأنها وتدريس التراث العربي القديم والتعريف بالعلماء العرب القدماء الذين كان لهم فضل كبير على النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر والذين استمدت العلوم الحديثة من اختراعاتهم واكتشافاتهم الكثير والكثير. كذلك يجب التأكيد على أهمية دور المؤسسات والهيئات العربية الإسلامية المنوط بها نشر الثقافة والعلوم العربية والإسلامية.
الكنز الباقي
إن التعددية الثقافية هي الكنز الباقي عبر الأجيال فهي نتاج انصهار الحضارات التي تعاقبت على هذا الكون منذ بدء الخليقة ومهما توحدت العلوم والمقاييس فلا يمكن أن تتوحد الثقافات واللغات في ثقافة واحدة موحدة أو في لغة واحدة يتحدث بها جميع سكان الكون. لقد جعل الله لغة لكل نوع من مخلوقاته حتى الطيور لها لغة خاصة بها كما أخبرنا الله في كتابه الكريم (منطق الطير) أي لغة الطيور, ولا يمكن لأي قوة في العالم أن تنجح في القضاء على الخصوصيات الثقافية Opecificites Culturelles لكل شعب من الشعوب.
إن الطريق شاق وطويل أمام المسلمين لإقناع العالم وخاصة الغرب بأهمية الخصوصيات الثقافية الإسلامية التي لا تتعارض البتة مع المواثيق والقوانين الدولية ولكنها يمكن أن تكملها وتثريها بما فيها من مفاهيم وروحانيات إنما الغرب في مسيس الحاجة إليها وعلينا أن نحدد معالم تلك الخصوصيات الثقافية الإسلامية والتي تعتبر القاسم المشترك لشعوب الأمة الإسلامية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون (خير أمة أخرجت للناس). على الأمة الإسلامية أن تحافظ على خصوصياتها العربية الإسلامية أمام الهجمات الشرسة التي تريد الهيمنة على عقول الناس جميعا وتفرض عليهم أسلوب تفكير واحد وكأنهم (روبوت) أي إنسان آلي وكأنما يريدون أن يضعوا هذا الإنسان في قالب واحد أي يستنسخونه ويلغون انفراديته Individualite ليصبح كل الناس على شاكلتهم, وهذا ما يرفضه الإسلام ويجب أن يتكاتف المسلمون للوقوف ضد هذا الاتجاه المدمر لأن الأسس والمبادئ والقيم التي أقرها الإسلام منذ 14 قرنا من الزمان والمرتكزة على المساواة والعدل والسلم والتعاون والالتزام بالمواثيق والعهود والمجادلة مع أهل الكتاب وعدم الغلو في الدين أو التعصب وعدم المفاضلة بين الناس أو التفريق بينهم بسبب الجنس أو اللون أو العرقية أو اللغة أو الدين, كل هذه الأسس تحفظ للإنسان المسلم هويته الإسلامية وخصوصياته الثقافية التي يجب عليه المحافظة عليها بل نشرها وتعريفها للآخرين وخاصة للغربيين وصانعي القرارات السياسية والاقتصادية وعلى مستوى العالم.
ولن يتحقق ذلك إلا إذا سارع المسلمون باللحاق بالركب للاضطلاع بدور فعال في المحافل الدولية. إن المجتمع الدولي في حاجة إلى المسلمين وإلى معرفة خصوصياتهم الثقافية لإثراء التراث العالمي للإنسانية وللتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى في إطار الحوار بين الحضارات على أن يكون هذا الحوار هادفا ومستمرا ومتميزا.
من أهم التحديات التي تطرحها العولمة أن نعرف كيف نحافظ على خصوصياتنا الثقافية دون أن يحول ذلك بيننا وبين التفاعل الإيجابي مع العولمة.
لقد أصبحنا نعيش في عصر اختزال المسافات وتقدم وسائل الاتصالات والمعلوماتية ولكننا مازلنا نتساءل كيف سيتم الحوار بين سكان هذه القرية الضخمة التي يتحدثون عنها في إطار العولمة? هل يا ترى سيتحدث الجميع لغة واحدة أم ستنشط حركة الترجمة من وإلى جميع اللغات الحية التي يتعامل بها البشر على كوكب الأرض? وهل سيكون لكل شعب من الشعوب خصوصيته الثقافية أم سيصبح جميع سكان (القرية الضخمة) ذوي ثقافة واحدة موحدة أيضا? ثم ما مصير تعدد اللغات والثقافات في الكيان الموحد الواحد في إطار العولمة?
إن الاتحاد الأوربي الذي يسعى حاليا إلى ترسيخ هوية أوربية جديدة سياسيا واقتصاديا ونقديا يرفض بشدة العولمة الثقافية التي تريد الولايات المتحدة فرضها عليه وعلى العالم أجمع ويتشبث بالخصوصيات الثقافية الأوربية. ولعل من أشد الدول والشعوب رفضا للعولمة الثقافية وتمسكا بالخصوصية الثقافية هي فرنسا التي تتمسك بموقف متشدد في هذا الصدد والتي اتخذت إجراءات قانونية صارمة سواء داخل فرنسا أو خارجها للمحافظة على لغتها الفرنسية. لقد سنت فرنسا قانونا يحظر استخدام اللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام الفرنسية وفي التجارة وفي المحلات التجارية... الخ, وكذلك خارج فرنسا في محافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حيث ترفض فرنسا رفضا باتا قبول أي قرارات أو وثائق أو مستندات باللغة الإنجليزية وتصر على أن تقوم الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بترجمة ذلك إلى اللغة الفرنسية.
أما نحن في الدول النامية فإننا مبهورون بالتقدم التكنولوجي الهائل الذي حققه الغرب في مجال الاتصالات والإنترنت وفي العلوم الطبية وخاصة في البيولوجيا مع اكتشاف الجينوم البشري أي الخريطة الوراثية للإنسان مما سيقلب كثيرا من المفاهيم ويزلزل كثيرا من المعتقدات, ولكننا في الوقت نفسه نواجه تحديات عصرية حادة إذ كيف يمكننا أن ننمي الوعي الكوكبي عند أبنائنا ليستطيعوا الاندماج في النظام العالمي الكوكبي الجديد مع المحافظة في الوقت نفسه على خصوصياتنا الثقافية المرتكزة على أصول وثوابت ديننا الإسلامي الحنيف. لا بد لنا أن نقف في مواجهة تيار العولمة الثقافية الذي يهدف إلى فرض ثقافة القوة العظمى الوحيدة في العالم حاليا وهي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تحاول الهيمنة على ثقافات العالم بعد أن خلت الساحة من سائر القوى الكبرى التي كانت تقف لها بالمرصاد. يجب علينا أن نثبت وجودنا على الساحة وأن نجعل خصوصياتنا الثقافية العربية الإسلامية تتفاعل مع الثقافة الأوربية والثقافة الصينية والثقافة اليابانية والثقافة الهندية ومختلف ثقافات أمريكا اللاتينية, لأن تفاعل كل هذه الثقافات بعضها مع البعض الآخر سيؤدي إلى مواجهة الثقافة الأمريكية والوقوف في وجهها حتى لا تبتلعنا جميعا.
الخصوصيات الثقافية الإسلامية
إن أول خطوة في طريق الحفاظ على الخصوصيات الثقافية هي إثبات الهوية والحفاظ عليها فهل لدينا أزمة هوية في الدول العربية والإسلامية? أو بالأحرى ما مكونات الهوية العربية الإسلامية التي نريد أن نثبتها ونواجه بها الهوية الأمريكية خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر التي فجرت قضية حوار الحضارات وليس تحدي أو صراع الحضارات كما حاول بعض مفكري الغرب ترويجه? إن إثبات هويتنا قضية شائكة ستدخلنا في متاهات ولكن ما نستطيع أن نؤكد عليه ونثبته ونتمسك به هو الخصوصية الدينية أي الدين الإسلامي كمنبع للثقافة وللحضارة العربية الإسلامية.
إن جوهر الدين الإسلامي الحنيف هو توجيه استخلاف الإنسان في الأرض حتى يتصل إلى إقامة أمة متوازنة (أمة وسط) يسود فيها السلام والعدل والمساواة الإنسانية بين الناس جميعا فيعيش الإنسان حياة متسقة مع حركة الكون. والخطاب القرآني يحث المسلمين بل الناس جميعا على التعارف فيما بينهم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... , والتعارف فيما بين الناس يبدأ أول ما يبدأبالحوار فيما بينهم.
ويحدد لنا القرآن الكريم الأصول التي يجب أن تكون أساسا للحوار ويضع ثوابت لهذا الحوار مثلما جاء في الآيتين الكريمتين ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن, و ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .
إن الإسلام يخاطب الناس جميعا ولم يرد في الخطاب القرآني تفضيل قوم على قوم آخرين وإنما يعتبر الناس جميعا أمة واحدة: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون, ولا يقر الإسلام العنصرية أو التحيز لجنس على آخر أو تفضيل لون على لون وإنما جاء ذكر الألوان في الخطاب القرآني للدلالة على قدرة الله في الخلق: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين, وجاء الحديث الشريف ليؤكد على أنه لا فضل لقوم على قوم أو للون على لون وإنما معيار التفضيل عند الله يرتكز على دعامة مختلفة تماما: كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى, إن أكرمكم عند الله أتقاكم (حديث صحيح). هذه هي المساواة المطلقة بين البشر دون تفرقة أو عنصرية أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العرقية أو اللغة أو حتى الدين, مادام المعيار كما جاء في الحديث الشريف هو لفظ (التقوى) وليس (الإسلام).
إن هذه المبادئ التي أرساها الدين الإسلامي وأعلنها الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ 14 قرنا من الزمان هي المبادئ والمعايير نفسها التي أقرها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان من 50 عاما فقط حيث نصت المادة الثانية من هذا الميثاق على الآتي: (جميع الأفراد لهم الحقوق والحريات نفسها من دون تفرقة من أي نوع مثل الجنس أو اللون أو النوع أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الوطنية أو الوضع الاجتماعي أو الملكية أو الميلاد أو أي أوضاع أخرى).
السِّلْم هو القاعدة
لقد أكد الإسلام على كل هذه المبادئ كمعايير أساسية للحياة في مجتمع يسود فيه الأمن والسلام وهو ما تنادي به الأمم المتحدة منذ إنشائها. إن السلام والسلم ومشتقاتهما من المصطلحات القرآنية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من مائة آية بينما لم تذكر مصطلحات الحرب ومشتقاتها إلا ست مرات فقط, ولا عجب في ذلك فكلمة (إسلام ) نفسها مشتقة من (سلم), فالإسلام يدعو كل الذين آمنوا, وليس المسلمين فقط, للدخول في السلم: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
فالسلم إذن هو القاعدة أما الاستثناء فهو خطوات الشيطان التي تقود إلى الهلاك وإلى الحروب وحتى إن كانت الحروب قدر على الإنسان أن يخوضها فهو يفعل ذلك كارها: كتب عليكم القتال وهو كره لكم. ولا يستقر السلام إلا على أساس من العدل بين الناس جميعا واعتبار الناس جميعا سواسية وإن اختلفوا في أطوالهم وأحجامهم إلا أنهم يكملون بعضهم بعضا: الناس سواسية كأسنان المشط (حديث شريف صحيح).
من منطلق هذه المفاهيم الإسلامية نستطيع أن نؤكد أن الإسلام أقر المساواة بين البشر والعدالة كميزان للعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد وفيما بين المجتمعات حيث حث الخطاب القرآني على احترام العقود والعهود والمواثيق: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها. هذا حث صريح على احترام المواثيق عامة أي المواثيق والعهود مع المسلمين وغير المسلمين, مع كل البشر, وهذا المبدأ هو أساس المواطنة الإنسانية لأن احترام الكلمة (الأيمان) أو العهد يجعل التعامل بين الناس والشعوب مبنيا على الثقة والوفاء والالتزام مما يجعل التعاون والتكافل والتعاضد مفاهيم يجب أن تسود بين الناس جميعا على ركيزة من البر المطلق: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
على هذا الأساس فإن الحوار بين الشعوب والحضارات يكون بالتعاون على الخير والابتعاد عن العدوان وذلك لصالح الإنسانية فلا يستطيع أي شعب أن يعيش ولا أي دولة أن تستمر إلا بالاندماج في المجتمع الدولي لتكون عنصرا فعالا من عناصر الأسرة الدولية وتواكب التطور والتقدم في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والصناعية والتكنولوجية والثقافية. والهدف من الحوار مع الآخر خاصة مع الغربيين هو الوجود الإسلامي على الساحة الدولية خاصة في المحافل الدولية عبر المؤتمرات العالمية التي تعقدها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لوضع الأسس والمعايير الحديثة للمنظور الجديدة للعالم وحتى تؤثر ثقافتنا العربية الإسلامية في الثقافات الأوربية والثقافة الأمريكية مثلما نتأثر نحن بهما.
ما هو المقصود بالعولمة ؟إذا العولمة هي : إلغاء الحدود والحواجز والقيود التي بين الدول والمجتمعات في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية الفكرية ، وجعل العالم موحد بلا فواصل زمنية أو مكانية .إن مصطلح العولمة من المصطلحات التي تستعمل بكثرة هذه الأيام، وكثيراً ما تتردد على مسامعنا في وسائل الإعلام المختلفة سواءً كانت المرئية منها أو المسموعة أو المقروءة ، وهي وبغض النظر عن إيجابياتها وسلبياتها ليست مقتصرةً على العولمة الاقتصادية ، وإن كان أكثر الحديث والتركيز حولها ، بل إنها تشمل جميع الجوانب الحياتية للإنسان المعاصر ، في السياسة والاقتصاد والثقافة ... إلخ . وهذا الأمر هو ما نلمس تأثيره بوضوح في هذه الأيام، ولا نحتاج لكي نثبته لتعمق واسع أو لتأمل كبير ، فنحن نلاحظ تأثر الكثير من أفراد مجتمعاتنا بالعادات والسلوكيات الغربية ، سواءً كانت هذه العادات في المأكل والمشرب من خلال مطاعم الوجبات السريعة المنتشرة في أغلب دول ومناطق العالم أو من خلال الملبس والمظهر ، حيث أصبحت بعض الملابس والمظاهر توجد في الكثير من الدول والمناطق (نفس الزي) أو كان ذلك بالتأثر بطريقة الكلام أو بأي شيء آخر ، المهم هو أن الكثير من هذه الأمور والأشياء أخذت الطابع والسمة العالمية ، وهذا هو بالتأكيد من نتاج العولمة التي أدت إلى تقارب العادات والسلوكيات ، وتقلص الفوارق بين المجتمعات والشعوب المختلفة .إن النتيجة التي نأخذها من الكلام السابق هي أن العالم اليوم يشهد ويعيش عصر العولمة في كافة المجالات الحياتية ، فالعولمة إذا ليست مقتصرة في المجالات الاقتصادية ، وليست كذلك محددة بأنشطة منظمة التجارة العالمية وفكرة تواجد الشركات العالمية ومتعددة الجنسيات في الأسواق المحلية للدول ، بل إنها متعددة في مجالات كثيرة ومتعددة ، ولهذا لا ينبغي حصر الحديث حول الآثار الاقتصادية للعولمة فقط ، بل يجب أن يكون الحديث عن آثارها بشكل عام وشامل ومتوازن ، بحيث يغطي ويشمل جميع أشكالها وأبعادها ، فمن الممكن أن تكون الآثار الاجتماعية والثقافية والفكرية للعولمة أكبر بكثير من آثارها الاقتصادية ، وإن كانت في وجهة نظري مترابطة ومتصلة فيما بينها - بعضها بالبعض الآخر- بمعنى أن لكل شكل أو لكل جانب منها ، آثاره وتأثيراته على الأشكال والجوانب الأخرى.
لماذا التركيز على التأثيرات الاقتصادية للعولمة ؟ إذا كانت العولمة وتأثيراتها ليست منحصرة في الجوانب الاقتصادية كما بينا وقلنا سابقاً ، فلماذا نلاحظ أن القلق الأعظم والهاجس الأكبر عند الكثير من الناس هو من الجانب الاقتصادي فقط ؟ !!ربما يكون السبب هو أن الجانب الاقتصادي هو الجانب المعلن عنه ، إذ أن تحققه لابد أن يكون من خلال اتفاقيات دولية – بموافقة الدولة أو بإرادتها – من خلال منظمة التجارة العالمية ، كما يرافق ذلك تصريحات إعلامية كثيرة لفترة زمنية ليست قصيرة ، فالعولمة الاقتصادية إذاً عملية منظمة ومخططة و واضحة التخطيط نسبياً (مقارنة بغيرها)، ولذلك نرى الكثير يعلم ويدرك مخاطرها وسلبياتها ولو بشكل إجمالي ، أما بالنسبة لتأثير العولمة في الجوانب الأخرى كـالجوانب الاجتماعية والثقافية لا تتم في العادة بصورة معلنة ، وليس بالضرورة كذلك أن تكون عملية مخططة ، كما لا تحتاج في الغالب إلى اتفاقيات وعمليات منظمة ، لأنها تعتمد بالدرجة الأولى على قوة التأثير من خلال الجذب أو الإقناع . إن هذا الأمر قد يجعل من تأثير العولمة على الجوانب الثقافية والاجتماعية أكبر من تأثيراتها على الجوانب الاقتصادية ، ولو تنازلنا قليلاً عن هذا القول لقلنا : بأنها على الأقل لا تقل تأثيراً عن العوامل الاقتصادية، وذلك لأنها غير معلنة مما يسبب جهل الكثير بها ، وعدم وعيهم لنتائجها وسلبياتها ، وهذا بدوره يؤدي إلى تجاهلها وعدم مقاومتها أو التصدي لها .
ولهذا لابد أن نكون متوازنين في نظرنا لجميع جوانب وأشكال العولمة ، فإذا كانت لدينا مخاوف من العولمة الاقتصادية ، فلابد أن يكون لدينا مخاوف مماثلة لها من العولمة في النواحي الأخرى كالعولمة الثقافية والفكرية والاجتماعية ، فمثلاً لو كنا نخاف من سحق الشركات العالمية ومتعددة الجنسيات لشركاتنا ومؤسساتنا المحلية والوطنية ، فلا بد لنا كذلك أن نخاف من تأثيرها على هويتنا وشخصيتنا الدينية والوطنية ، وإذا كنا نخشى من سيطرة الشركات العالمية ورجال الأعمال العالميين على الساحة المحلية ، فلا بد أن نخشى كذلك من تأثير الأفكار والثقافات السلبية الغربية على مجتمعاتنا المحلية، وإذا كنا نخاف ونخشى من إفلاسنا الاقتصادي من جراء العولمة الاقتصادية فمن باب أولى أن نخاف ونخشى من إفلاسنا الفكري والثقافي من جراء العولمة الثقافية والفكرية والاجتماعية ... وهكذا لابد أن نعيش حالة التوازن .

لماذا نخاف العولمة ؟ !! بمعنى : هل تخوفنا من العولمة مبرر أم أنه غير مبرر ؟؟ في وجهة نظري أن الخوف من العولمة أمر مبرر وهو عقلاني ومنطقي للآتي :
1. الخوف مبرر لأننا نجهل المستقبل ، فنحن لا نمتلك صورة كافية عن ما سوف يحدث في المستقبل من نتاج العولمة ، ونجهل الكثير من الحقائق عنها رغم محاولة البعض لشرح بعض جوانبها وآثارها (المستقبل المجهول).2. لأننا لا نثق بالآخر ، وكيف نطمئن وننعم بالراحة والسكون والثقة معدومة ؟ !!(فقدان الثقة).3. لأن لنا تجارب سيئة وسلبية مع الآخر ، أحياناً حتى لو كانت هناك أطروحات مستقبلية إيجابية نبقى متخوفين إذا كان تاريخنا مع الآخر سلبي (التجارب السلبية). 4. لأن الكل يبحث ويحرص على مصالحة الشخصية بغض النظر عن الآخر ومصالحة ، مما يؤدي إلى وجود حالة من عدم الاطمئنان ، وذلك لعدم وجود ضمان كافي لحماية المصالح خاصةً إذا كانت المصالح متناقضة(عدم ضمان المصلحة) .5. لأن ثقافة الآخر وقيمة وعاداته تختلف عن ثقافتنا وقيمنا ، مما يؤدي إلى الخوف من تأثير ذلك على هويتنا الدينية والثقافية والوطنية (اختلاف الثقافات). 6. لأننا لا نمتلك المقومات للمواجهة ، وبالخصوص في الجانب الاقتصاد ، فنحن في الدول النامية نخشى إلغاء الحواجز والحدود الاقتصادية وفتحها أما الأسواق والشراكات العالمية ، لأن مقدرتنا أقل بكثير من مقدرة الدول المتقدمة ، فالمنافسة إذا غير متكافئة أو معدومة فمن الطبيعي إذا وجود مثل هذه المخاوف (عدم امتلاك مقومات المواجهة).
كيفية المواجهة للتحديات ؟
إن المخاوف التي ذكرتها في السابق وقد يوجد غيرها الكثير ، هي مخاوف مبررة وعقلانية ، وهي كذلك تمثل تحديات صعبة أمامنا على الصعيد الاقتصادي والسياسي والقانوني والاجتماعي والفكري والثقافي ، ولذلك لابد لقياداتنا السياسية والفكرية وبالخصوص علماء الاقتصاد والقانون والاجتماع والنفس من فهم العولمة وتحليل آثارها على الفرد والمجتمع وتزويدنا بالطرق العلمية لمواجهتها ولتفادي آثارها السلبية قدر الإمكان .
كلمة الختام : عرفنا فيما سبق بأن العولمة ليست فقط اجتياح للأسواق المحلية للدول ، بل هي أيضاً اجتياح حتى للأفكار والثقافات والقيم ، ولكن ينبغي كذلك أن نعلم بأنه ليس بالضرورة أن تكون جميع نتائج وآثار العولمة سلبية بالكامل ، بل قد يكون فيها بعض النواحي الإيجابية ، وذلك إذا قامت على مبدأ المشاركة والتعاون بين الأمم والمجتمعات ، لا على مبدأ السيطرة والتحكم والاستغلال - أي التكامل الفعلي بينها وليس التكامل الاسمي – لذا لابد لنا من إيجاد حالة التوازن في التعاطي معها حتى ننعم بالإيجابيات ونتلافى السلبيات قد الإمكان ، ومقصودي من التوازن هنا : هو التوازن في كيفية الانفتاح على الآخر ، بحيث لا يعني هذا الانفتاح استحواذه علينا أو ذوباننا فيه ، فنحن لا نريد تذويب شخصيتنا وقيمنا وثقافتنا في الآخر ، ولا نريد كذلك أن نعيش في عزلة عن الآخر ، بل نريد المشاركة والتفاعل الإيجابي معه بما يضمن تحقيق مصالح جميع الأطراف بلا أي استغلال أو استغفال .
نشأة العولمة:لقد تعددت الآراء في تحديد التاريخ الدقيق الذي نشأت فيه ظاهرة العولمة، وكذا مراحل تطورها (الخضيري، 2001م، ص 59-70 وعبد الغني، 1999م، ص 97-98 ويسين، 1998م، ص 30-32). فيربطها البعض بفترة الكشوف الجغرافية في الغرب، التي تم جزء كبير منها في القرن الخامس عشر الميلادي، ويذهب البعض الآخر إلى تحديد تاريخها بالقرن الثامن عشر، حيث شهدت أوروبا في هذا القرن تطورات إنسانية كثيرة. وعلى أية حال، فإن معظم الآراء تتفق على أن مصطلح "العولمة" قد هبَّ على العالم وانتشر انتشاراً واسعاً وسريعاً إثر انتهاء الحرب الباردة واختفاء الاتحاد السوفيتي (الببلاوي، 1999م ص 32-33). ومع أن كلمة "العولمة" لم تنتشر ولم تصبح كما هي عليه اليوم من الرواج إلا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وعلى وجه الخصوص، منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، فإن مضمونها بوصفها ظاهرة تهدف إلى أمركة العالم، قد تم التعبير عنه بجلاء في منتصف الستينيات على الأقل، عندما تقدم بعض المنظرين في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1965م، بمبادرة اشتملت على برنامج عمل يضمن للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة على العالم (الجابري، 1997م، ص144). ويربط البعض بين ظهور مصطلح "العولمة" وظهور ما عُرِف بالنظام العالمي الجديد، الذي بدأت بذوره الأولى في منتصف الستينيات من القرن العشرين، ثم بدأت توجهاته تتضح في السبعينيات، وتسارعت خطاه في الثمانينيات، بحيث اتضحت خطوطه العامة وملامحه الرئيسة مع بداية التسعينيات (يسين، 1998م، ص 29، وانظر: الخضيري، 2001م، ص 59-60 وعبد الغني، 1999م، ص 97-102).وتجدر الإشارة إلى صعوبة تحديد الوقت الذي بدأت فيه ظاهرة العولمة تأخذ الصورة التي نراها عليه اليوم. ومع ذلك، يمكننا أن نشير إلى عدد من الأحداث الرئيسة التي شهدها العالم، والتي حملت للبشرية إرهاصات العولمة. ومن بين هذه الأحداث: أول خدمة دولية للتلغراف عبر المحيطات (1866م)، وإدخال التنسيق على مستوى العالم للساعات وفقاً لتوقيت "جرينتش" (1884م)، وظهور أول نظام للاتصالات الهاتفية بين لندن وباريس (1891م)، وإنشاء أول نظام لانتقال الأموال عبر الحدود الدولية في لوكسمبورج (1929م)، وافتتاح أول مطعم "مَكْدُونالْد" (1955م)، وبدء أول اتصالات دولية بالأقمار الصناعية (1962م) وإنشاء أول نظام إلكتروني لأسعار صرف الأوراق المالية (1971م)، وغير ذلك من أحداث مشابهة (عبد البديع، 1999م، ص 94- 95 والخضيري، 2001م، ص62). ومن استعراض هذه الأحداث يتبين لنا أن "العولمة" في مراحلها الأولى، لا ترادف "الأمركة"، ولا نلمس أنها نشأت أو ظهرت تحت تأثير أمة معينة، أو أنها فُرِضَت وفقاً لمشيئة هذا الزعيم السياسي أو ذاك القائد العسكري، بل ندرك أنها تحققت وتطورت بسبب مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، التي تنتمي إلى تراث البشرية بأكملها. وعلى أية حال، وبعيداً عن التتبع التاريخي لظاهرة العولمة، فإنها قد أصبحت، بخيرها وشرها، واقعاً ملموساً، نعيشه ونحياه، ويصعب - إن لم يكن مستحيلاً - الابتعاد عنه.
العولمة هي ظاهرة أفرزتها ثورة الاتصالات وتقانة المعلومات في ظل النظام العالمي الجديد، الذي أتاح للولايات المتحدة ودول الغرب السيطرة الكاملة والهيمنة على العالم، في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والتقنية والعسكرية. وقد اهتم المفكرون بهذه الظاهرة وما قد يترتب عليها من تداعيات ونتائج تؤثر على الناس في شتَّى مناحي الحياة، وبصفة خاصة، على هويتهم الثقافية، وثقافتهم القومية، وذاتيتهم الوطنية، ومعتقداتهم الدينية. ونتناول في هذا البحث مفهوم العولمة، وظهورها، والفرق بينها وبين العالمية، والآثار الإيجابية والسلبية الناجمة عنها، خاصة ما يتعلق منها بالجانب الثقافي، وأثر ذلك على الهوية العربية والإسلامية، ثم نبحث في سُبِل التعامل معها ومواجهتها.تعريف العولمة ومفهومها:تعتبر "العولمة" من أكثر العناوين والمصطلحات استخداماً في عصرنا الحاضر، بل أكثر قضايا العصر المثارة على نطاق العالم الواسع. ورغم كثرة ما كُتِب فيها، لم يتفق الباحثون والمفكرون على تعريف واحد لها، وتعددت مناهج الباحثين في تعريف العولمة، فركز البعض على أحد أبعادها، قي حين حاول البعض أن يعرفها بتعريفات تنسجم مع موقفه منها وتوجهاته من حيث الرفض أو القبول. ويذهب بعض الباحثين (وﮔا ﮒ، 2002م، ص96) إلى أن أقرب تعاريف العولمة إلى الدقة هو: "أن العولمة هي دمج ودمقرطة ثقافات العالم، واقتصادياته وبنياته التحتية، من خلال الاستثمارات الدولية، وتنمية تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتأثير قوى السوق الحرة على الاقتصاديات المحلية والإقليمية والعالمية"؛ ومنهم من يقول أنها حرية حركة السلع والخدمات والأيدي العاملة ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الوطنية والإقليمية. وهناك من يرى (الشيباني، 2001م، ص331 ويسين، 1998م، ص27) أن العولمة هي إقحام الجميع في دخول ترس الآلة العالمية بسبب الثورة الجامحة للمعلوماتية وتطور تقنية الاتصالات، وبذلك يكون مصير الإنسانية مُوَحَّداً.وعندما نذكر مصطلح "العولمة" (Globalization)، أو نسمعه، فإن الذهن يتجه فوراً إلى الكونية، أي إلى الكون أو العالم الذي نعيش فيه، ومن هنا ندرك أن المصطلح يعبر عن حالة من تجاوز الحدود السياسية الراهنة للدول إلى آفاق أكثر اتساعاً تشمل العالم بأسره. وهذا يعني تنازل الدولة الوطنية، أو حملها على التنازل، عن حقوق لها، لصالح "العالم"، أو بعبارة أدق، لصالح المتحكمين في هذا العالم. والصيغة الصرفية للفظة "عولمة"، هي "فَوْعَلَة"، وقد فرضتها على اللغة العربية حاجة العصر وما طرأ عليه من مستجدات. وهي تدل على تحويل الشيء إلى وضعية أخرى مثل "قولبة" من "قولب"، أي وضع الشيء في صيغة قالب ... الخ. ومن ثم، يكون معنى "العولمة" هو وضع الشيء على مستوى "العالم" (الجابري، 1997م، ص135). فعندما نقول مثلاً عولمة النظام الاقتصادي، أو عولمة السياسة، أو عولمة الثقافة، فإننا نعني تحول كل منها من الإطار القومي ليندمج ويتكامل مع النظم الأخرى المثيلة لها في العالم. لقد ظهر مصطلح العولمة أول ما ظهر في مجال المال والتجارة والاقتصاد، غير أنه لم يعد مصطلحاً اقتصادياً محضاً، فالعولمة الآن يجري الحديث عنها بوصفها نظاماً أو نسقاً ذا أبعاد تتجاوز دائرة الاقتصاد. إنها الآن نظام عالمي، أو يراد لها أن تكون كذلك، يشمل مجال المال والتسويق والمبادلات والاتصال ... الخ، كما يشمل أيضاً مجال السياسة والفكر والإيديولوجيا. والعولمة هي فرض نمط أو نموذج معين على البشر جميعاً؛ بما يعنيه ذلك من القضاء على الخصوصية، والمنافسة، والتنوع، والاختلاف، الذي هو قانون الله النهائي غير القابل للتعديل أو التغيير (أبو صقر، 2000م، ص 51-53).ومصطلح "العولمة" هو ترجمة لكلمة Globalization الإنجليزية التي ظهرت أول الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تفيد معنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل. وبهذا المعنى يمكن أن نفترض، أن الدعوة إلى العولمة بهذا المعنى إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة وجعله يشمل العالم كله. وقد رأى الباحثون أن العولمة في صورتها الراهنة هي الدعوة إلى تنميط العالم بالنمط الغربي، أو بعبارة أدق، هي الدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله. لذا نجد هناك من يقرن بين العولمة وبين "الأمركة"، بصفتها معنية بنشر الطابع الأمريكي وتعميمه (الجابري، 1997م، ص 137).إن تحَكُّم الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من 65% من وسائل الإعلام العالمية، ساعدها إلى حد بعيد في نشر الطابع الأمريكي. ولما كان من اليسير على الولايات المتحدة نشر القيم والمبادئ الأمريكية، لامتلاكها وسائل القوة الاقتصادية والعسكرية، كان من البديهي أن تسخر هذه العولمة لصالحها. فالعولمة هي هذا النظام العالمي الجديد، أحادي القطب، يدور في فلكه كافة دول العالم، ويسيطر اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وعسكرياً وتكنولوجياً ومعلوماتياً، وتلعب فيه الولايات المتحدة دوراً فاعلاً ومحركاً وأساسياً (الشيباني، 2001م، ص 332، والمرسي، 1999م، ص 178-182).
انعكاسات العولمة على حقوق الإنسانالقسم الثانيالآثار الايجابية للعولمة على حقوق الإنسان المحامية سحر الياسري
كما للعولمة آثارها السلبية على حقوق الإنسان لها آثارها الايجابية وتكون في صالح الشعوب المقهورة, ونذير شؤم على الاستبداد, والمستبدين الذين يتمركزون وراء الدولة القطرية, والسيادة الوطنية الزائفة من اجل الاستفراد بشعوبهم. حيث يرى أنصار العولمة أن إيجابياتها على حقوق الإنسان كثيرة لا يمكن حصرها, وهي تشمل جميع النواحي والمجالات الاقتصادية, والاجتماعية, والإدارية والثقافية, والسياسية والتقنية والمعلومات وغير ذلك, وهي تعمل على إعادة تشكيل العالم من حيث الإنتاج والتسويق, والتمويل وزيادة فرص العمل ورفع الكفاءة الفنية والبشرية. فالعولمة تتحقق من خلال تطوير الزراعة والصناعة والخدمات الإنتاجية, وتطوير السياحة على المستويين المحلي والدولي, وتحسين وسائل السفر, وخفض تكلفتها, وتوحيد السياسات المالية والنقدية, وتوسيع الاستثمار, والتكامل الاقتصادي.واهم إيجابيات العولمة :- 1. الانفتاح على العالم وخاصة في المجال الثقافي, الاقتصادي, والتجاري, وشيوع مبادئ الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية, وتأكيد قيم احترام الإنسان وتقدير آدميته, وحقه في الحياة الكريمة, لقد فرضت العولمة تواصلا حقيقيا بين الشعوب والوعي بحقوقها وما يمكن أن تحققه على أرضها لكي تعيش حرة وسعيدة, لقد خلقت العولمة قوة دفع قوية, وتيارا جارفا نحو المزيد من الانفتاح والحريات والحقوق الأساسية, ولن تستطيع الأنظمة الاستبدادية مقاومة هذه القوة أو السباحة ضد هذا التيار.2. أن العولمة تؤدي إلى تسريع تطبيقات جديدة في الثقافة الحديثة, وتعمل على أن تجعل العالم يعيش ولادة شيء جديد في كل دقيقة يفضي بالضرورة إلى خدمة الإنسان, وربما كانت أفضل ايجابية للعولمة أنها تقضي على الشمولية والسلطوية التي تعاني منها الشعوب النامية, وتعمل على إشاعة الديمقراطية, واحترام حقوق الإنسان والتعددية, وإنها تجعل العلم, والمعرفة, والثقافة, والأدب والفن في متناول الجميع, وتمكن الناس من الحصول عليها بأيسر السبل وأسهلها, وأن العولمة توفر الفرصة لتحرير الإنسانية بما تنتجه من تفاعل بين الثقافات, وتمنح كل إنسان الخيار بما يناسبه لاستثمار قدراته وقابلياته في الميدان الذي يرغب به, وبذلك تقضي على هدر الطاقات البشرية .3. تعمل العولمة على تحويل الشعور بالانتماء من حالة خاصة( تعصب لقبيلة, ومجتمع, وطن) إلى حالة عامة, وهي الإنسانية, الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى خفض العداء بين المجتمعات, وتهدئة النزاعات التي تقود الحروب بين الدول, وتجعل الأرض مدينة إنسانية تسمى المجتمع المدني العالمي.4. أدت إلى بروز تيارات فكرية منادية باحترام حقوق الإنسان وآدميته, ورفع الاستبداد والجور والطغيان والتعسف, وكل أشكال القهر والهيمنة, أن أبرز شعار ترفعه العولمة هو حقوق الإنسان واعتبارها قضية تهم المجتمع الدولي, وله الحق باتخاذ إجراءات تأديبية من خلال هيئة الأمم المتحدة ضد كل من يتطاول على هذه الحقوق, فلا يمكن لأي مجتمع أن يعيش في معزل عن بقية المجتمعات دون أن يرتبط بعلاقات إنسانية هدفها الأمن, والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والقانوني الذي يوفر من بعد الرخاء والاحترام المتبادل في مجال خدمة الإنسان وحقوقه الأساسية.5. تمثل الانفتاح على العالم والتأثير الثقافي المتبادل بين أقطاره المختلفة وحرية حركة السلع والخدمات, والأفكار والتبادل الفوري دون حواجز, أو حدود, وتحول العالم إثر التطور التقني والتيار ألمعلوماتي إلى قرية كونية صغيرة, بقدر ما تستحوذ على اهتمام الجميع, بقدر ما أصبحت جزء مهم من حياة الفرد اليومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية.6. انهيار الدولة القومية, وسيادة فكرة الديمقراطية والمطالبة بحقوق الإنسان, ومنها الحقوق الاقتصادية المتمثلة في الأسواق الحرة والشركات متعددة الجنسية ومتعدية الحدود, ومنها الاجتماعي والثقافي المتمثل نحو التجانس الثقافي, وانفتاح الأنظمة الاجتماعية وبخاصة نظام التدرج الاجتماعي, ونظام الأسرة, والجوانب التكنولوجية أو التقنية المتمثلة في التقنية الصناعية والحربية والكومبيوتر ووسائل الاتصال التي تستخدم تقنيات الأقمار الصناعية. أن هذه الرؤية الجديدة القائمة على حوار الحضارات, والثقافات, لها أثرها المباشر وغير المباشر على حقوق على الإنسان لدى شعوب الأرض قاطبة وإنها بحالتها الراهنة وأنها بحالتها الراهنة ما زالت تقتضي حوارا عالميا تتبنى خطوطه العريضة الأمم المتحدة, عبر شرعية حقوق الإنسان التي تضمن حقوق الشعوب, وتؤمن عدالة كونية مقبولة, تنجزها في الواقع أنظمة عالمية ديمقراطية تحقق المساواة للجميع.العولمة اليوم أصبحت واقعا ليست خيرا مطلقا وليست شرا مطلقا فكما لها ايجابياتها لها سلبياتها أيضا سنبحثها في القسم الثالث ويجب أن ندرس ظاهرة العولمة بحكمة فالمسألة هناك مصالح وتوازنا نحن مضطرون للتعامل معها نحصل على كل ما نستطيع من ايجابياتها ونتجنب سلبياتها.

كلنا نعلم أن عالم التجارة يسير في خط مستقيم تجاه العولمة. كما أننا نعلم منافع العولمة: فمع الغاء الحواجز الاقتصادية، يستطيع العالم تبادل السلع بحرية وبدون أي عوائق ، وتزيد المنفسة وتخفض التكاليف. ولنبسط هذا التفسير نعطي مثلا” صغيرا”: اذا كان بلدا” ينتج أفضل السيارات في العالم يمكنه أن يصدّر منتجاته الى بلد آخر غني بالنفط أو أن يستبدل سياراته بذرة ذات سعر منخفض ونوعية أفضل الذي ينتجه.
وبهذه الطريقة يحصل الجميع على سيارات ونفط وغذاء ذات سعر منخفض ونوعية جيدة. وفي ما يتعلق بموضوع انتاج الأبقار والأغنام في عالمنا: نعلم أن الجميع يتمنى شرب حليب طازج، لكن للحصول عليه نحن بحاجة الى الفيتامينات والأعلاف الخضراء والمركزات التي لا يملكها الجميع. قد تكون العولمة نظريا” دواء ناجحا” لذلك وتحل هذه المشكلة باستيراد هذه المنتجات الاساسية من بلدان رخيصة في العالم وتقايضه على سلع أو معادن نملكه بوفرة. لكن هل حللنا فعليا” النواحي السلبية لهذا الدواء في صناعتنا؟ ماذا يحدث لو ينتج بلد واحد أرخص وأجود ذرة في العالم، وتمنع الدول الأخرى بصرامة من انتاج هذا المحصول القيم؟ ماذا يحصل ان احتكروا السوق؟ هل باستطاعتهم الافراط في زيادة سعر المواد الاولية؟ بمعنى آخر:” هل يمكن ان يفوق سعر الأعلاف الخضراء، كالتبن والسيلاج، سعر الذهب والنفط؟ هل يوجد خطر حقيقي أم ” تبتز ” البلدان الغنية زراعيا” الدول القاحل؟ والجواب هو: لم لا؟ نحن نتحدث عن الغذاء الذي يشكل أهم سلعة يحتاجها الانسان. ونحن مستعدون لدفع أي ثمن لاطعام أولادنا ان جاعوا. اذا” كيف ………..عنا هذا الخطر؟ ليس باستطاعتي توقع جواب أفضل من: ” ازرع غذاءك بنفسك ” وهنا لا يسعني سوى أن أتذكر ما قاله جبران خليل جبران: ” ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ” ونحن في العالم العربي نستطيع انتاج كل ما نحتاجه، ويمكننا ان ندفع أي ثمن مقابل ما نحتاج. السودان ومصر والعراق وغيرها من الدول غنية بماء الري وتتوفر فيها الأعلاف الخضراء التي يسهل تجفيفها وتخلط في ما بعد مع المركزات لتكوين علف كامل للمجترات: العلف الوحيد الذي ذات السعر المنخفض. لا نحتاج الى مؤسسات حكومية. ولا الى قرارات من مراكز عالية وملوك. نحن بحاجة الى أي قرار شامل، اتفاق، مؤسسات وما الى هنالك… كل ما نحتاج اليه هو التحرك كأفراد ومربين ومتعاونين أو كشركات خاصة. ان كل ما نحتاج اليه هو بناء مصنع صغير أو متوسط الحجم لتخفيف النبات في الدول العربية الغنية، ونقل العلف الى الخليخ الذي يقدر تحمل كلفته ويريد حليبا” طازج… اني اتحدث عن العروبة وليس عن العولمة: هل هذا بحلم مستحيل؟

الثلاثاء، 12 مايو 2009

مفهوم العولمة الاقتصادية:قبل الولوج في عرض إيجابيات وسلبيات توجه الاقتصاديات الوطنية نحو العولمة، يجدر بنا اقتراح تعريف لظاهرة العولمة الاقتصادية وذلك من خلال التطورات المتسارعة التي طرأت على النظام الاقتصادي العالمي في السنوات الأخيرة. فقد كانت العلاقات الاقتصادية الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية سنوات الثمانينات من القرن العشرين تتسم بالتوجه نحو التدويل المتمثل في الانفتاح التدريجي للاقتصاديات الوطنية على المبادلات التجارية ورؤوس الأموال الأجنبية. إلا أنه منذ بداية التسعينات حدثت تطورات سريعة ومكثفة أعادت تشكيل النظام الاقتصادي الدولي، ومن ثم أصبح هذا النظام في ثوبه الجديد يتسم بالخصائص الهامة الآتية:-1-عولمة نمط الإنتاج الرأسمالي القائم على: التنافسية – التوجه نحو التوسعية واقتصاديات الحجم – التركيز الذي يفضي إلى الاحتكار – تسريع التحديث والتطور[i].2-عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال عن طريق إزالة القيود على تحركات رؤوس الأموال خاصة القصيرة الأجل والتي يطلق عليها الأموال الساخنة.3-تعاظم دور العلم والتقنية وتأثيرهما في التحكم في السيطرة على الاقتصاد العالمي باعتبارهما المفاتيح الأساسية لبناء القوة الاقتصادية والتنافسية الدولية في الوقت الراهن وتوجهات المستقبل. ونتيجة لذلك تمارس القوى المالكة للتقنية الحديثة سواء كانت دولاً أم شركات متعددة الجنسية دورًا متميزا في توجيه العالم نحو العولمة والتحرر الاقتصادي. ومن المتوقع أن تحصل هذه القوى على نصيب الأسد من مغانم العولمة. وفى هذا الصدد يشير أحد الباحثين إلى أن الشركات المتعددة الجنسيات التي لا تدين بالولاء إلا للأرباح تقوم بتوظيف المنجزات العلمية البارعة لمزيد من أحكام قبضة العالم على رقبة العالم الثالث[ii].4- تعاظم الدور الاقتصادي والسياسي والعسكري للولايات المتحدة الأمريكية: فقد أدى تغير مراكز القوى العالمية على أثر انهيار الشيوعية نظرية وتطبيقا إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي السابق وارتماء دول أوربا الشرقية والكثير من دول العالم الثالث في أحضان الدول الصناعية الرأسمالية والمنظمات الدولية بهدف مساعدتها على التحول من الاقتصاديات المدارة مركزيا إلى اقتصاديات السوق الحر؛ هذا بالإضافة إلى فقدان أوربا للقيادة العالمية نتيجة للأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها في القرن العشرين[iii]. وكانت النتيجة الطبيعة انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بلا منازع بالهيمنة على مصائر العالم وتصرفها لا كقوة عظمى بل كالقوة العظمى الوحيدة في العالم من دون تنسيق مع أي شريك آخر ولا في إطار أية هيئة دولية جماعية[iv].5- تعاظم دور المنظمات الاقتصادية الدولية في إدارة الاقتصاد العالمي الجديد وإطلاق حرية المنافسة الاقتصادية حيث تشكل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي نظامًا اقتصاديا حاكما وحازما للعلاقات الدولية في المجالات التجارية والمالية. فبالنسبة للمؤسسات المالية الدولية تنامي دورهما في تصميم برامج التكيف الهيكلي والإصلاح الاقتصادي في دول العالم الثالث ودول أوربا الشرقية. ويكمن أحد أهداف هذه البرامج في إدماج هذه الدول في دورة الاقتصاد العالمي. أما منظمة التجارة العالمية التي دخلت اتفاقية إنشائها حيز التنفيذ في أول يناير 1995م وتضم الآن 145 دولة فتختص بالإشراف على التجارة الدولية والعمل على تحريرها من كافة القيود الكمية والنوعية.6- الاتجاه نحو التكتل الاقتصادي الإقليمي بهدف الاستفادة من الفرص التي تتيحها العولمة الاقتصادية وتدعيم القدرة على مواجهة التحديات التي تفرضها، ومن أمثلة ذلك: تكتل الاتحاد الأوربي، وتكتل دول النافتا، وتكتل دول الآسيان، وتكتل دول الإبيك. وينظر البعض إلى هذه التكتلات الاقتصادية الإقليمية على أنها خطوة نحو العالمية المطلوبة للتجارة الحرة بين دول العالم[v].7- تدويل بعض المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؛ مثل حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب وقضايا السكان والفقر والتلوث البيئي وغسيل الأموال التي تم اكتسابها بطرق غير مشروعة[vi].من واقع الخصائص التي تميز الاقتصاد العالمي المعاصر والتي سبق إيضاحها عاليا، يمكن القول أن مفهوم العولمة الاقتصادية يتمثل من كونها النتاج الواقعي لتطور الرأسمالية الغربية في مرحلتها الأخيرة التي تتحكم فيها قوى دولية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، هذه القوى تقود تيارا عالميا يستهدف سيادة اقتصاديات السوق وتحرير المعاملات الاقتصادية الدولية من كافة القيود المباشرة وغير المباشرة. وترتيبا على ذلك يمكن القول أن تيار العولمة الاقتصادية ينصرف إلى نشر نظم وعلاقات وقوى الإنتاج والتبادل والتوزيع الرأسمالية في دول الأطراف، على أن يتم ذلك بقيادة وسيطرة دول المركز الأصلي للرأسمالية والمنظمات الاقتصادية الدولية. وفي هذا الصدد يرى البعض أن العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت في السنوات الماضية رسملة العالم على مستوى سطح النمط ومظاهره [vii]؛ ويجمع هذا التيار الفكري بين العولمة الاقتصادية والليبرالية المتطرفة. ويرى البعض الآخر أن هناك اختلافاً بين هذين المفهومين ؛ فالعولمة عبارة عن ظاهرة تاريخية موضوعية لها إيجابياتها وسلبياتها، أما الليبرالية المتطرفة فعبارة عن ظاهرة أيديولوجية ذاتية تعطي لنفسها حق تسيير وإدارة العولمة وتسعى إلى فرض نفسها كمرادف للعولمة[viii]. ويمكن تقسيم مضمون العولمة الاقتصادية إلى أربعة مكونات أساسية هي:1- انتشار المعلومات والبيانات الاقتصادية وغير الاقتصادية بحيث تكون متاحة لجميع الشعوب. وقد ساعد على تدفق وذيوع هذه المعلومات التقدم الهائل في وسائل الموصلات والنقل والاتصالات والفضائيات وتقنية المعلومات.2- سهولة حركة السلع والخدمات والأموال والأشخاص الطبيعيين بين الدول مما يعني تلاشي أو على الأقل إضعاف الحدود السياسة للدول؛ وبالتالي تحل النظرة العالمية للأسواق محل النظرة المحلية أو القطرية.3- زيادة معدلات التشابه بين سلوك الجماعات وتنظيم وإدارة المجتمعات وأشكال المؤسسات الاقتصادية والسياسة والتنميط في أساليب الإنتاج وفى المنتجات من السلع والخدمات. ويرجع ذلك إلى أن حركة العولمة تتضمن تبني فلسفة السوق الحر داخل الدولة وفي معاملاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى ومن ثم سيادة النظام الرأسمالي الديمقراطي الغربي.4- التوابع والتجليات للعولمة الاقتصادية في الميادين السياسية والثقافية، فالعولمة الاقتصادية تعطي وزنا هاما للمتغيرات السياسية والاجتماعية[ix]. فقد ارتبطت عملية العولمة الاقتصادية باتساع نطاق الثقافة الغربية وتعميق النمط الاستهلاكي الأوربي والأمريكي في شعوب العالم الثالث ومنها الدول الإسلامية، مثل نوعية الملابس التي يرتدونها وأنواع الطعام والشراب التي يفضلونها بل ومفردات الكلام التي ينطقون بها، فالتقدم في وسائل الاتصال كانت له بصمات على اتجاهات وميول الأفراد الثقافية والاستهلاكية في الكثير من دول العالم الإسلامي. علاوة على ذلك فإن العولمة الاقتصادية على الطريقة الأمريكية تبشر بنشر مجموعة من القيم التي تحكم الحياة السياسية في الغرب؛ مثل الديمقراطية والتعددية الحزبية واحترام حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعوب ومكافحة الفساد وجرائم غسيل الأموال وحماية البيئة
ايجابيات وسلبيات التحول نحو العالمية:إن العولمة الاقتصادية باعتبارها مرحلة متقدمة في تاريخ الرأسمالية يتكامل فيها النشاط الاقتصادي وظيفيا عبر الحدود الوطنية سوف يكون وقعها الايجابي والسلبي غير متساو بين الدول. لذلك يجب التأكيد على أن التحذير من سلبيات العولمة الاقتصادية لا يعنى الدعوة إلى الانفصال عن الاقتصاد العالمي ومجرياته، فالهدف إذن من التحذير هو وضع الدول الإسلامية أمام مسئولياتها حتى لا يكون نصيبها من الاندماج في هذا الاقتصاد العالمي الأعباء دون المغانم.1- إيجابيات العولمة:تتيح العولمة مجموعة من الفرص التجارية والاقتصادية والسياسية التي يمكن للدول الصناعية والنامية الاستفادة منها على السواء , وأهم هذه الفرص :أ- انتشار المعلومات والبيانات بحيث تصبح متاحة لدى جميع الدول والشعوب، فمن المتوقع في السنوات القادمة توقيع اتفاقية تستهدف تحرير التجارة في تقنية المعلومات مما سوف يساهم في تضييق الخلافات بين الدول النامية والدول الصناعية بخصوص نقل التقنية وبخاصة تقنية المعلومات.ب_ تعزيز المنافسة بين الدول والشركات في إطار تفعيل آليات السوق الحر على المستوى الدولي وبالتالي تسهيل حركة الناس والسلع والخدمات بين الدول على المستوى الكونى. ولكن من الواجب الإشارة إلى أن توافر سوق كبير أمام الدول الإسلامية لا يكفي وحده لزيادة صادرات هذه الدول، إذ لابد من العمل على زيادة وتحسين الإنتاج وتخفيض تكاليفه وبخاصة في مجال الإنتاج الصناعي والخدمي.ج – محاربة الفساد: يترتب على التحرير الاقتصادي وفتح الأسواق زيادة درجة المنافسة وتقليل البيروقراطية الإدارية الأمر الذي يؤدي إلى تحجيم دور ذوي النفوذ السياسي والإداري ، ومن ثم القضاء على جزء كبير من الفساد الإداري المستشري في كثير من دول العالم الثالث[i]. د - انتشار وتعميق المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير واستنهاض روح المسئولية في المجتمع الدولي لحماية البيئة. ولا شك أن تعزيز هذه القيم يمثل مطالب أساسية للدول الإسلامية. فعلى سبيل المثال قد يساعدنا تطبيق هذه المبادئ بموضوعية في حل الكثير من المشكلات السياسية المعلقة منذ سنوات عديدة؛ مثل حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وحصول الأقليات الإسلامية في العديد من الدول على حقوقها مثل مسلمي كوسوفو والشيشان وكاراباخ والفلبين وكشمير. إلا أنه يجب التحذير من بعض المخاطر التي من الممكن أن ترافق تطبيق هذه المبادئ نتيجة للممارسات الخاطئة والمتحيزة للدول التي تقود النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، لذلك ينبغي على الدول الإسلامية الوقوف ضد ازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الصناعية في تطبيق حقوق الإنسان وعدم السماح لهذه الدول الأخيرة بفرض نموذج الديمقراطية والتنمية الغربي كنموذج أوحد للديمقراطية والتقدم، والعمل على تقنين حق التدخل التي يمارسه الآن حلف الأطلنطي حتى لا يشهر كسلاح ضد الأمة الإسلامية في يوم من الأيام.ويرى الاقتصادي الأمريكي ( (J. STIGLITZأن العولمة تمتلك قدرات كامنة لإثراء العالم خصوصا الشعوب الفقيرة إلا أن المعضلة تكمن في طريقة ونظام إدارة العولمة[ii].2- سلبيات العولمة:إن التقويم المتوازن لما يجرى الآن اقتصاديا وسياسيا على الساحة الدولية يؤكد وجود نتائج سلبية للعولمة بالنسبة لبعض الدول. إلا أن تحليل هذه السلبيات لا يعني الدعوة إلى الانعزال عن الاقتصاد العالمي ومجرياته، بل الهدف من إظهار هذه السلبيات هو وضع الدول الإسلامية أمام مسئولياتها حتى لا يكون نصيبها من الاندماج في الاقتصاد العالمي الأعباء دون المغانم. هذا ويمكن إجمال هذه السلبيات في الآتي:أ- اتهام العولمة الاقتصادية المعاصرة بتكريس عدم العدالة في توزيع مكاسب تحرير التجارة الدولية من استيراد وتصدير، نظرا لاحتكار الأقلية من الدول المتقدمة والشركات متعددة الجنسية التي صدرت عنها الدعوة للعولمة للمزايا الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي. وترتيبا على ذلك تصبح العولمة المعاصرة مجرد إعادة إنتاج لنظام التبادل القديم غير المتكافئ؛ فالشركات متعددة الجنسية تتسم بضخامة إستثمارتها وحجم أعمالها، وتنوع أنشطتها الاقتصادية والانتشار الجغرافي والاعتماد على توظيف المدخرات العالمية والقدرة على تعبئة الكفاءات البشرية العالية من مختلف الجنسيات، واحتكارها للمنتجات ذات المحتوى التقني المرتفع ولمنجزات البحث العلمي. ونتيجة لهذه الإمكانيات أصبحت هذه الشركات تهيمن على توجيه الاستثمارات على المستوى الدولي مما أدى إلى تضخم أرباحها. وقد أدى تحكم هذه الشركات في مصير الاقتصاد والتجارة العالميين أن أصبحت حكومات الدول الإسلامية مضطرة لمناقشة مستقبل اقتصادياتها مع هذه الشركات. ويلاحظ أن التخوف من سطوة الشركات متعددة الجنسية لا يقتصر على شعوب وحكومات الدول النامية والإسلامية بل يتعداها إلى سكان البلاد الصناعية. وقد حملت هذه المخاوف أحزاب يسار الوسط إلى الحكم في التسعينيات من القرن العشرين في دول الاتحاد الأوربي الرئيسة مثل وصول حزب العمال بقيادة ( توني بلير) إلى الحكم في المملكة المتحدة، ووصول الحزب الاشتراكي بقيادة ( ليونيل جوسبان) إلى الحكم في فرنسا، ووصول الحزب الاشتراكي الديمقراطي بقيادة ( جيرهارد شرودر)، وحزب الخضر بقيادة ( يورك فيشر ) إلى الحكم في ألمانيا. وفى مقال في صحيفة " الاندبندت " البريطانية[iii] أشار رئيس الوزراء البريطاني ( توني بلير) إلى أنه بدون إعلاء قيم العدالة الاجتماعية والتكافل والحقوق المتساوية في العمل لن يكون تيار العولمة محتملا من جانب المواطن العادي وسينتهي الحال بهذا التيار إلى الانهيار، وذلك في إشارة واضحة إلى الدور المتنامي للشركات متعددة الجنسية في الاقتصاد العالمي.ويمكن تحليل التوزيع غير العادل لمكاسب العولمة الاقتصادية من خلال نصيب التجمعات الدولية في المجالات الآتية :أولا : التوزيع اللامتكافئ للثروة العالمية : ففي بعض التقديرات أن 20% من الأكثر غنى من سكان العالم تحصل على 82% من إجمالي الدخل العالمي [iv]. كما أن 358 مليارديراً في العالم يمتلكون معا ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان العالم[v].ثانيا : الأضرار بالتوظف على المستوى العالمي : تشير بعض المراجع إلى أن نسبة 20% من السكان العاملين ستكفي في القرن الحادي والعشرين للحفاظ على النشاط الاقتصادي في العالم وبالتالي فإن نسبة البطالة ستصل إلى 80% من قوة البشر القادرين على العمل في العالم وسيتركز معظم هؤلاء العاطلين في دول العالم الثالث[vi].ثالثا : تعميق ظاهرة التبادل الدولي غير المتكافئ : حيث تتهم العولمة الاقتصادية بتكريس عدم العدالة في توزيع مكاسب تحرير التجارة الدولية نظرا لاحتكار الأقلية من الدول الكبرى للتجارة الدولية استيراداً وتصديراً علاوة على احتكارها للمزايا الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي[vii]. ويوضح الجدول التالي التوزيع الجغرافي للتجارة الدولية:
التجارة الدولية : استيراد وتصدير
النسبة المئوية من التبادل التجاري (2000)
المنطقة الجغرافية
الوردات
الصادرات1- أمريكا الشمالية2- أوربا الغربية3- أسيا4- أوربا الشرقية5- أمريكا اللاتينية6- أفريقيا7- الشرق الأوسط
22.5
38.6
24.9
3.6
5.8
2.0
2.6
16.6
38.4
28.7
4.3
5.6
2.3
4.1Source : World Trade Organization (WTO) ; International Trade Statistics “ Geneva , 2001.يتضح من الجدول السابق أن أمريكا الشمالية وأوربا الغربية تحصل على نصيب الأسد من التجارة الدولية إذ أن نصيبها من الصادرات يصل إلى 55% ونصيبها من الواردات يرتفع إلى 61%. كما يلاحظ أن معظم صادرات هذه الدول تتمثل في منتجات صناعية وخدمية أما واردتها فتتمثل في المواد الخام والطاقة المحركة، أما عن الشرق الأوسط ، كمثال للدول لإسلامية، فإن نصيب دوله من الصادرات العالمية يصل إلى 2.6% ونصيبها من الصادرات عبارة عن 4.1% فقط. ويلاحظ أيضا أن معظم صادرات دول الشرق الأوسط تتمثل في المواد الخام والنفط. وترتيبا على ذلك تصبح العولمة المعاصرة مجرد إعادة إنتاج لنظام التبادل القديم غير المتكافئ، أما الأمر الجديد فهو إقناع دول العالم الثالث بفتح أسواقها أمام المنتجات الصناعية والخدمية التي تصدرها البلاد الصناعية المتقدمة.ب- الانفصال المتنامي بين حركة الاقتصاد المالي المتمثل في تجارة العملات والتوظيفات المالية وحركة الاقتصاد العيني المتمثلة في تدفقات السلع والخدمات الحقيقية، فقد ترتب على إتباع أسعار الصرف العائمة للعملات الصعبة والعولمة السريعة والمتزايدة للأسواق المالية والنقدية وجود كمية كبيرة من النقود الدولية تتحرك في أسواق المال الدولية باستقلالية كاملة عن عمليات تمويل التبادل التجاري[viii]. فعلى سبيل المثال تضاعف حجم النقد الأجنبي المتداول في الأسواق العالمية ثلاث مرات خلال الفترة من عام 1986 - 1993 ليصل إلى ما يقرب من 900 بليون دولار في اليوم الواحد[ix]. وقد ترتب على هذا الوضع العديد من النتائج نجملها فيما يأتي :1- اتساع نطاق الاتجار في العملات من قبل المضاربين على الصعيد العالمي. وقد ساعد تقدم وسائل الاتصال في حرية انتقال المضاربين بسرعة من عملة إلى أخرى.2- زيادة حجم القروض قصيرة الأجل التي تخرج من اقتصاديات البلاد الرأسمالية الصناعية بحثا عن العائد المرتفع في الاقتصاديات النامية والإسلامية.3- زيادة حدة الصدمات الخارجية وهيمنة سلوك المضاربين على استقرار الأسواق الناشئة في البلاد النامية والإسلامية.4- فشل صندوق النقد الدولي في تحقيق الاستقرار النقدي والمالي على المستوى العالمي.وتجدر الإشارة إلى أن أزمة الأسواق المالية الآسيوية التي حدثت في عام 1997 ومازالت أثارها مستمرة حتى الآن ترجع أساسا إلى تسرع دول جنوب شرق أسيا في إزالة القيود وفتح أسواقها المالية بلا ضوابط أمام تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية قصيرة الأجل غير المستقرة وذلك في ظل غياب القواعد السلوكية والتنظيمية التي تحكم حركة الأموال وتجارة العملات وتصرفات الجهاز المصرفي. ج- الصراع بين العولمة ومفهوم الدولة القومية ؛ فالعولمة تقلل من أهمية الحدود السياسية بينما تؤكد القومية على الخطوط الفاصلة بين الحدود . وفي المجال الثقافي والاجتماعي تعني العولمة انتقالا للأفكار والمبادئ والقيم والعادات الاجتماعية بينما تميل القومية في بعض الأحيان إلى المحافظة على الخصوصية الثقافية والعقدية ونمط الحياة الاجتماعية[x]. وفى هذا الصدد تلعب وسائل الإعلام وأجهزته في العالم العربي دور خطيرا في الترويج للأيدلوجيا الليبرالية ونمط التفكير الغربي حتى يتم إعادة تكوين رؤية جديدة للعالم توافق إلى حد بعيد المصالح الاقتصادية لأمريكا وأوربا. أو بمعنى آخر السعي إلى توحيد المفاهيم الثقافية والقيم الأخلاقية في العالم طبقاً للمعايير الأمريكية ، وهو ما يشكل أحد أسباب الصدام مع العالم الإسلامي[xi] . وبالتالي هناك تخوف من هيمنة الثقافة الغربية بصفة عامة والأمريكية بصفة خاصة على كل أنحاء العالم مما يساهم في إضعاف الهويات الثقافية والعقدية للجماعات البشرية. وتجدر الإشارة إلى أن من يخطط لمحو التعدد الثقافي العالمي وبخاصة إضعاف الثقافة الإسلامية لن يحالفه التوفيق حتما. فالثقافة الإسلامية التي استمرت طيلة أربع عشر قرنا من الزمان قادرة على التفاعل الايجابي الخلاق مع الثقافات الأخرى ومع تطورات الزمن، بل وأكثر من ذلك ؛ فإن العولمة سوف تؤدى إلى اتساع نطاق الثقافة الإسلامية لأنها أقدر وأقوى من غيرها على النفاذ إلى قلوب وعقول الناس. إلا أن المطلوب هو ترشيد وتنسيق العمل الإسلامي في مواجهة الثقافات الأخرى الوافدة واستلهام القيم الذاتية ذات الجذور الإسلامية في عملية بناء الشخصية الإسلامية.د - تباطؤ الدول المتقدمة في الوفاء بالتزاماتها التي تعهدت بها في ختام دورة أورجواي حتى تدفع الدول النامية على توقيع اتفاقيات إنشاء منظمة التجارة العالمية، ومن أهم هذه الالتزامات تعويض الدول النامية المتضررة من ارتفاع تكاليف الوردات الغذائية بسبب إلغاء دعم المنتجات الزراعية والإجراءات الحمائية وتيسير نقل المعارف الفنية للدول النامية. ومن المعلوم أن تراجع الدول الصناعية عن الوفاء بتعهداتها سوف يزيد من أعباء العولمة على البلاد النامية ومواطنيها، وقد أدان البنك الدولي على لسان( نيكولاس شيترن) رئيس القسم الاقتصادي في البنك. النفاق التي تمارسه الدول الغنية التي تطالب الدول النامية بفتح أسواقها أمام منتجات الدول الصناعية المتقدمة في حين تعمل هذه الدول الغنية على حماية نفسها عبر فرض سياسات دعم وحواجز جمركية[xii].هـ - الإضرار بالتوظف في دول العالم الثالث : ينظر مناهضو العولمة على أنها تمثل خطراً دائماً على الصناعات الصغيرة والمتوسطة لأن هذه الصناعات لا تقوى على منافسة المنتجات الصناعية المستوردة من الدول الصناعية ، سواء من حيث الجودة أو تكاليف الإنتاج . كما أن منشآت تجارة التجزئة صغيرة الحجم تصبح في وضع تنافسي غير متكافىء أمام زحف منشآت التوزيع العالمية داخل السوق الوطنية؛ مثل سلسلة محلات كارفور ، وسنسبيري وغيرها ، وترتب على ذلك إفلاس الكثير من هذه المنشآت والصناعات وفقد الكثير من المواطنين لوظائفهم ، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة . علاوة على ذلك فإن السعي المحموم لتحقيق الربح سيدفع الشركات متعددة الجنسية التي توطن إنتاجها في دول العالم الثالث إلى استغلال مواطني هذه الدول العاملين في هذه الشركات، ويأخذ هذا الاستغلال صوراً عديدة أهمها تخفيض الأجور و إجبار العمال على العمل ساعات طويلة ، وتقدم هذه الشركات على ذلك نظرا لما تتمتع به من نفوذ قوي ونافذ لدى صناع القرار السياسي في الكثير من الدول النامية[xiii]. علاوة على ذلك هناك اتهام لعدد من المنظمات الدولية بالتواطؤ مع بعض الدول الصناعية والشركات المتعددة الجنسية ضد فقراء العالم. فالتقرير السنوي للهيئة العالمية عن أبحاث الصحة،( وهى إحدى الهيئات التي تديرها منظمة الصحة العالمية) يتهم هذه المنظمة بالتحول من الاهتمام بالمحتاجين إلى تقديم الرعاية إلى مالكي رؤوس الأموال ومالكي شركات الأدوية. ويشير التقرير إلى أن الموازنات الضخمة للأبحاث الطبية في منظمة الصحة العالمية والتي تقدر بنحو 73.5 بليون دولار في السنة تأتى معظم أموالها من الدول الغنية وتنفق على اهتمامات الصحة في تلك الدول بعينها ولا يذهب سوى 10% من هذه الأموال إلى بقية سكان العالم[xiv]. ونتيجة لذلك اصطدمت جهود العلم لصنع لقاح للملاريا بغياب التمويل المناسب على الرغم من أن الملاريا تحصد أرواح الملايين سنويا.
رؤية إستراتيجية لمواجهة تهديدات العولمة الاقتصادية : لكن تتمكن الدول الإسلامية من مواجهة أخطار العولمة الاقتصادية والاستفادة والتمتع بأكبر قدر من مزاياها وتفادي أو التقليل من آثارها السلبية، فإنها – كمجموعة- ملزمة بتطوير عناصر القوة الاقتصادية والسياسية والتقنية لديها، وذلك يتطلب عدم المصادمة معها، أو التقوقع والانكماش، بل السعي للتعامل الايجابي مع هذه العولمة. ومن أهم الآليات والوسائل المساعدة لذلك ما يأتي: 1 - التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية : حيث يؤدى التكامل الاقتصادي إلى توزيع المنافع الاقتصادية بين الدول التي دخلت في برنامج التكامل، كما أن ذلك سبيل إلى تحقيق الاستفادة من المزايا النسبية المتوافرة في كل دولة، مما ينتج عنه زيادة الإنتاجية واتساع نطاق التبادل التجاري بين هذه الدول. ويمكن إيجاز أبرز منافع التكامل الاقتصادي في النقاط الآتية : أ- اتساع نطاق السوق مما ينتج عنه : زيادة القوة التفاوضية مع الكتل الاقتصادية الأخرى ، بالإضافة إلى وفورات الإنتاج الداخلية والخارجية، أو ما يسمى اقتصاديات الحجم الكبير وذلك لأن من أعقد المشكلات التي تواجه التوسع في الإنتاج وزيادة الكفاءة الإنتاجية هي ضيق السوق. ولذا فإن اتساع السوق واندماج الأسواق الوطنية يؤدى إلى مزيد من التخصص وتقسيم العمل بين الدول المتكاملة وفق المزايا النسبية الحقيقية، وهذا يترتب عليه أو ينتج عنه رفع الكفاءة الإنتاجية وزيادة المقدرة على المنافسة الدولية[i]. ب – ارتفاع معدل النمو الاقتصادي وزيادة مستوى التشغيل والإنتاج، ذلك أن التكامل الاقتصادي سينعكس ايجابياً على التوقعات المستقبلية لمتخذي القرارات الاستثمارية، فاتساع الأسواق يؤدي إلى زيادة ثقة المستثمرين في تصريف الإنتاج، مما يؤدي إلى زيادة الاستثمارات، فزيادة الدخول، ومن ثم زيادة الطلب الفعال، وزيادة التوظف، مما ينعكس في النهاية على معدل النمو الاقتصادي بالارتفاع، وهذا بخلاف الأثر غير المباشر أو الارتدادي على انسياب رؤوس الأموال الأجنبية إلى داخل الدول الإسلامية، مما يترتب عليه ارتفاع إضافي في مستوي الاستثمار والتشغيل، وكذا نقل الأساليب الفنية الحديثة. ج – تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة في الدول المتكاملة، ذلك أن التكامل الاقتصادي يستهدف إزالة كافة القيود المعوقة لحرية انتقال عناصر الإنتاج بين الدول المشتركة في التكامل، وينتج عن ذلك الاستفادة الجماعية المثلى من تنوع الموارد الطبيعية والمالية والبشرية، مما يمكنها من تحقيق التنمية الاقتصادية[ii]. د - تنويع سلة الإنتاج والصادرات السلعية والخدمية في إطار من التنسيق بين الدول المشتركة في برنامج التكامل. هـ - زيادة التجارة البينية بفعل الترتيبات التكاملية بين الدول المشتركة في التكتل أو التكامل الاقتصادي، مما يؤدى إلى تحسين معدلات التبادل الدولي لصالح هذه الدول، وهذا يؤدي إلى : · انخفاض الاعتماد على الدول الأخرى ( خارج التكتل ) في التجارة الخارجية، مما يعنى انخفاض درجة التبعية الاقتصادية للعالم الخارجي، ومن ثم انخفاض مخاطر التقلبات والتذبذبات في أسعار الصادرات والواردات. · التعامل مع الشركات متعددة الجنسية كجبهة إسلامية واحدة، أو كقوة أو كتلة اقتصادية واحدة، وليس كدول هامشية ضعيفة. · المشاركة في صنع القرارات داخل المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية، بدلاً من وضعها الحالي والذي لا يعدو كونها متلقياً ومنفذاً للسياسات التي تفرضها هذه المؤسسات، وذلك على الرغم من عدم مراعاة هذه السياسات في كثير من الأحيان للأوضاع والظروف الاقتصادية والاجتماعية الخاصة بالدول الإسلامية. · التعامل الانتقائي مع العولمة الاقتصادية بما يخدم أهداف وتوجهات ومصالح الدول الإسلامية المشتركة في برنامج التكامل الاقتصادي، ومقاومة حالات الاندماج اللاإرادي في الاقتصاد العالمي. · الاستفادة من الاستثناءات الممنوحة للكتل الاقتصادية والمنصوص عليها في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، بما يساعد على مواجهة العولمة الاقتصادية وعدم استقطاب الدول الإسلامية داخلها[iii].ومع كل هذه المزايا المتوقعة للتكامل الاقتصادي إلا أن هناك بعض العقبات أو العوائق التي تقف في وجه الدول الإسلامية أثناء سعيها لتحقيق هذا التكامل، لعل من أبرزها : أ - التفاوت في المستوى الاقتصادي واختلاف أساليب ووسائل وأولويات التخطيط بين دولة وأخرى. ب - ضعف واختلال الهياكل الإنتاجية، والتشابه في الاعتماد على القطاع الأولي، مما يجعل هذه الدول أقرب إلى التنافس منها إلى التكامل.ج - اختلاف النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا يؤدي إلى اختلاف دور الدولة ومدى تدخلها في النشاط الاقتصادي من دولة لأخرى. د - سيادة فكرة القومية بحسب مفهومها الغربي وطغيان مسألة السيادة الوطنية والإقليمية على فكرة الدولة الإسلامية، وتعد هذه المسألة من أكبر العقبات؛ ذلك أن مثل هذا الشعور يؤدي إلى أن تكون إجراءات التكامل الاقتصادي انتقاصا من السيادة الوطنية التي تسعى هذه الدول للحفاظ عليها. هـ - تدخل الاعتبارات السياسية في القرارات التكاملية. و- عدم وجود معايير موضوعية مقبولة لتنويع التخصصات وتقسيم العمل بين الدول، وكذا عدم وجود معايير واضحة ومقبولة لتوزيع أعباء وعوائد التكامل.ز - الجهود الكبيرة للشركات متعددة الجنسية في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وبالتالي السعي لعرقلة أية جهود إقليمية في هذا الشأن[iv]. وعلى الرغم من وجود هذه العقبات وغيرها، إلا أن مقومات تكامل الدول الإسلامية كبيرة، بل وتتغلب مع الإرادة الصادقة على تلك العقبات، حيث أن لدى الدول الإسلامية من العوامل المساعدة لقيام التكامل الاقتصادي ما يفوق غيرها من الدول، ولعل من أبرز هذه العوامل ما يأتي : أ- وحدة العقيدة بين المسلمين والتي تعد أقوى رباط يمكن أن يجمع بين أي تكتل، ذلك أن رباط الدين أقوى من كل الروابط العرقية والقومية والجغرافية والسياسية... ، يقول تعالى: ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )[v]، فالمسلمون يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم أمة واحدة على الرغم مما حل بهم من مآسي وتفرق بسبب بعدهم عن عقيدتهم. ب - توافر الموارد الاقتصادية وتنوعها وتوزعها بين الدول الإسلامية. ج- اتساع السوق وكبر حجم السكان، والانتشار الجغرافي[vi].2- التدرج في تحرير الأسواق المالية : تتصف أسواق الأوراق المالية في الدول الإسلامية بعامة - كغالبية الدول النامية- بعدد من السلبيات التي تؤثر على دورها الاقتصادي، ولعل من أهم هذه السلبيات : أ- أن نشأتها كانت معتمدة على المنهج الرأسمالي الربوي الذي لا يتوافق مع الطبيعة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة للدول الإسلامية. ب- ارتباط هذه الأسواق بالأسواق المالية الغربية، مما نتج عنه عدة آثار سلبية، منها : 1) التبعية شبه المطلقة في الفكر المالي من حيث الهياكل ونمط الإدارة ونوعية الأدوات المالية المتداولة.... الخ. 2) الاهتمام بتطوير أدوات مالية تقليدية ( كالسندات ) تغذي السوق ولكنها لا تتوافق مع حاجات الدول الإسلامية التنموية، ولا مع معتقداتها. 3) اعتماد معظم الدول الإسلامية على الأسواق المالية الدولية، سواء في تمويل العجز في موازين المدفوعات، أو في تمويل برامجها التنموية. وكذا في الجانب الآخر، عند وجود فائض فإن الأسواق المالية الدولية هي المكان الملائم لتوظيف تلك الفوائض، وأصبحت الأسواق المالية الإسلامية المحلية مجرد وسيط بالعمولة. ج - اتصاف الأسواق المالية في الدول الإسلامية بالضيق وعدم العمق، وذلك ناتج عن محدودية أنواع الأدوات المالية المتداولة، ومحدودية انتشار هذه الأدوات بين المستثمرين. د - أن معظم التشريعات المنظمة للأسواق المالية في الدول الإسلامية تعد من الأسباب المعوقة لفاعلية ودور هذه الأسواق، ويمكن إرجاع ذلك لأسباب عدة لعل من أبرزها البيروقراطية الإدارية الموجودة في غالبية الدول النامية[vii]. ولذا، فإن على الدول الإسلامية في ظل واقعها الحالي، ولكي تتمكن من مواجهة تيار العولمة الاقتصادية في مجال الأسواق المالية العمل على : 1. التدرج في تحرير أسواق الأوراق المالية، وعدم التسرع أو الاندفاع نحو تحقيق الاندماج المالي قبل تقوية بنية وهيكل الاقتصاديات السلعية الوطنية، وكذا إصلاح أوضاع الأسواق المالية؛ سواء من حيث الضوابط التنظيمية أو الأدوات المالية المتوافقة مع الشريعة الإسلامية وحاجات التنمية الاقتصادية في هذه الدول. وذلك من أجل أن تكون هذه الدول قادرة علي الاستفادة الايجابية من هذا الاندماج، وكذا قادرة على مقاومة الصدمات الخارجية المتوقعة بعد تحرير هذه الأسواق. 2. وضع ضوابط وقيود تنظيمية فيما يتعلق بتداول وتملك الأجانب للأدوات المالية المحلية. 3. تنظيم عمليات الاقتراض الخارجي قصير الأجل بالعملات الأجنبية؛ فمن المعلوم أن هذا النوع من رؤوس الأموال يتميز بخصائص عدة؛ من أهمها : ـ ارتفاع تكلفة التمويل، مما يستلزم استخدامه في مشروعات استثمارية تتمتع بارتفاع عائدها بالقدر الذي يمكن من سداد تكلفة الاقتراض وتحقيق فائض يستفيد منه الاقتصاد الوطني. ـ قصر فترة السداد بالإضافة إلى عدم وجود فترة سماح، وبالتالي فإنه يلقي بأعبائه على الاقتصاد الوطني في وقت مبكر من الحصول عليه، الأمر الذي يقتضي قصر استخدام الاقتراض قصير الأجل على تمويل مشروعات تتمتع بتحقيق عائد سريع، مثل تمويل عمليات الاستيراد والتصدير أو المشروعات الصناعية الخفيفة.4. العمل على إنشاء أو تأسيس سوق مالية إسلامية دولية تكون مسئولة عن تنظيم وتطوير الأدوات المالية الإسلامية، وتتيح في نفس الوقت تداول تلك الأدوات في الدول الإسلامية. 5. العمل على استغلال الميزة النسبية المتوافرة لدى المصارف الإسلامية (عدم التعامل بالربا)، كي تتمكن من مواجهة تيار العولمة والمنافسة غير المتكافئة بين البنوك الدولية الكبرى، وبين البنوك المحلية ومنها البنوك الإسلامية، والتي لا تزال غير مهيأة لمواجهة هذه المنافسة نظراً لمحدودية أحجامها، وتواضع إمكانياتها الاقتصادية وضعف خدماتها مقارنة بالبنوك الدولية، ولا يمكن للبنوك الإسلامية المواجهة إلا من خلال: ـ استغلال الميزة النسبية الخاصة بالبنوك الإسلامية. ـ العمل على تكامل أو اندماج البنوك الإسلامية. ـ تطوير الأساليب والممارسات المصرفية باستخدام أحدث التقنيات المتاحة في العالم والعمل على ابتكار أدوات تمويلية واستثمارية جديدة. ـ تعزيز الدور الاجتماعي للبنوك الإسلامية، والذي تغافلت عنه كثير من البنوك الإسلامية تحت دافع الربح[viii]. 3- عدم الاندفاع نحو التخصيص : يعتبر الإسلام الدولة مؤسسة عليا لا غنى عنها لانتظام نمط الحياة ، وهو في هذا يختلف جذرياً مع كل من الرأسمالية والاشتراكية فالدولة في النظام الرأسمالي الحر يجب أن تظل محايدة من الناحية الاقتصادية، ولكن الأزمات الاقتصادية الحادة التي مرت بها الرأسمالية أدت إلى إحداث تعديلات على هذه النظرة، وأصبحت الدولة تقوم بدور أكبر في المجال الاقتصادي. كما يختلف الإسلام في النظر للدولة عن الفكر الاشتراكي الذي يعد الدولة نتاجاً برجوازياً ووجودها دليل على الاستغلال والتحكم. أما دور الدولة وتدخلها في النشاط الاقتصادي في الإسلام فهو منوط بالمصلحة، بحيث لا يؤدي إلى إلغاء المبادرة الفردية التي هي أساس النشاط الاقتصادي في المجتمع الإسلامي ومن ثم فإن الدور الرئيس للدولة يتمثل في حماية حقوق الأفراد، وحفظ المصالح العامة، والدفاع عن حدود الدولة الإسلامية[ix] ، أما بقية المجالات في متروكة للقطاع الخاص أو لعدد من المؤسسات الاجتماعية الأخرى للقيام بها( كالزكاة والأوقاف... )، ولذا فإن التخصيص كما ينادي به في العصر الحاضر هو منهج إسلامي أصيل، قبل أن يكون هدفاً للسياسات الإصلاحية لصندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات والهيئات الدولية. ولكن في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للدول الإسلامية في العصر الحاضر، ونظراً لمفهوم الدولة المعاصر ودورها في الحياة الاقتصادية، وفي ظل تهديد تيار العولمة الاقتصادية، فإن من الواجب على الدول الإسلامية المحافظة على دور رئيس للدولة في النشاط الاقتصادي بحسب درجة النمو الاقتصادي التي وصل إليها البلد، وقد يكتفي بالدور التوجيهي أو التخطيط التأشيري، حتى لا ينحرف النشاط الاقتصادي تحت تأثير تحرير الأسواق والسلع إلى ما قد يعود بالضرر على الاقتصاد الوطني. 4 - الأخذ بالأساليب العلمية والتقنية الملائمة : من المستلزمات الضرورية لمواجهة تيار العولمة الاقتصادية السعي الحثيث للأخذ بالأساليب العملية والتقنية الملائمة لحاجات التنمية الاقتصادية في هذه الدول، وهذا يعنى أنه ليس بالضرورة أن تكون أحدث المخترعات والصيحات في العالم هي الهدف، بل ما يتوافق وأوضاع وظروف هذه الدول ويلبي احتياجاتها الفعلية[x]. 5 - الاهتمام برأس المال البشري: تعاني الدول الإسلامية بعامة من تخلف مستوي التقنية وأساليب الإنتاج فيها، مما يرجع في جانب كبير منه إلى ضعف برامج التعليم والتدريب وارتفاع نسبة الأمية وضآلة جهود البحث العلمي وانعدام روح المبادرة والابتكار...الخ، وتشير بعض البيانات المتاحة إلى أن :- نسبة الإنفاق على البحوث والتطوير العلمي في الدول النامية إجمالاً ( بما فيها الدول الإسلامية ) تبلغ ( 1.6 % ) من مجموع إنفاق دول العالم على هذا المجال. - نسبة الإنفاق العام على التعليم في الدول النامية بلغت ( 3.8 % ) من إجمالي الناتج القومي عام 1997 م، بينما بلغت هذه النسبة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ( 5 % ) خلال نفس الفترة[xi]. - نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الدول المتقدمة تتراوح بين (2-4 % ) من إجمالي ناتجها القومي، بينما لا تنفق الدول النامية في المتوسط إلا( 0.3%) من ناتجها القومي فقط[xii]. ولذا، فإن إعداد سياسات فاعلة لتنمية راس المال البشري، وبخاصة في مجالات التعليم والتدريب والبحث العلمي، تعد من العناصر الرئيسة التي يجب الاهتمام بها من قبل الدول الإسلامية.6 - تفعيل الدور السياسي والاقتصادي لدول العالم الإسلامي:حيث يشكل العالم الإسلامي أكثر من خمس سكان العالم ، ومع ذلك فإن مشاركتهم في صنع القرارات الاقتصادية والسياسية شبه معدومة ، ومن هنا يجب على الدول الإسلامية السعي بشكل جدي ومنسق ( عن طريق منظمة المؤتمر الإسلامي مثلاً ) لتوحيد مواقفها تجاه الكثير من القضايا المعاصرة ؛ ومن ذلك تمكينها من القيام بدور أكبر في المحادثات متعددة الأطراف في منظمة التجارة العالمية ، وتعد مبادرة الاتحاد الأوربي تجاه الدول النامية بعامة " كل شيء فيما عدا السلاح " ، خطوة مهمة في هذا الاتجاه يجب استثمارها وتفعيلها . خاتمة وتوصيات:في ظل التطورات السريعة التي تطرأ على الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة يجب أن يكون أبناء الأمة وعلماؤها على يقظة تامة للكشف عن التحديات والمشكلات التي تواجه دولهم.وفي هذا الإطار وقع اختيارنا لدراسة موضوع العولمة الاقتصادية وآثارها على اقتصاديات العالم الإسلامي. وفي نهاية هذا البحث يمكننا استخلاص النتائج وتقديم التوصيات الآتية :1- إذا كانت هناك ثمة مخاطر أو سلبيات للعولمة الاقتصادية يمكن أن تهدد مسارات التنمية الاقتصادية في الدول النامية ومنها الدول الإسلامية، فإنها بالمقابل تتيح فرصا مواتية يمكن الاستفادة منها في مجالات متعددة أهمها زيادة الصادرات و وتسهيل نقل التكنولوجيا وإثارة الهمم لزيادة درجة التنافسية الدولية. فسلبيات العولمة لا يمكن أن تحجب الضوء عن حفنة من مزاياها وفوائدها.2- إن التصدي للعولمة الاقتصادية لا يكون من خلال رفضها, وإلا سيكون ثمن ذلك فقدان الدور والقوة بل وربما المستقبل بأكمله مما يعني حتمية الاستجابة المبدعة لمواجهة العولمة أو بمعنى آخر التفاعل الإيجابي معها.3- إن فرص استفادة الدول الإسلامية من العولمة تتوقف على عدة اعتبارات هامة:أ‌- إنجاز مهمة التحديث الاقتصادي ورفع مستوى الكفاءة الاقتصادية, وذلك عن طريق رسم السياسات التعليمية والعلمية التقنية الفعالة – إفساح المجال أمام القطاع الخاص دون تخلي الدولة عن دورها الفعال في الاقتصاد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي – التدرج في تحرير الأسواق المالية – الاهتمام بالنشاط التصديري ورفع مستوى جودة الإنتاج.ب‌- تفعيل التعاون والتكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية، وذلك بهدف إيجاد كيانات اقتصادية كبرى قادرة على المنافسة الدولية، كما أن التكتل الاقتصادي سيعضد موقف الدول الإسلامية في التفاوض مع الدول الصناعية والمنظمات الدولية لتحقيق مصالحها الاقتصادية.