الاثنين، 4 مايو 2009

نحن والغرب والعولمة
قراءة في العولمة وتجلياتها في المجال العربي الإسلامي(*)


إذا كنا نرى بأن الغرب كان ولم يزل محكوماً بعقدة التـمركز (Euro- Centrism) على الصعيد النفسي، فإنه وبحكم اكتسابه لعناصر القوة ومزايا التأثير والانتشار، قد احتل بالفعل موقع المركز العالمي، وصار الجميع يتعامل معه على هذا الأساس، حتى أضحت مقولة المركز والأطراف ـ في ضوء واقع القوة المختل ـ حقيقة لا يمكن نكرانها، وتصلح من ثم لوصف جدليات التقدم والتأخر وتحليل معادلات الاستكبار والاستضعاف في عالم اليوم.
وحين يكون المد العولمي مصدره المركز وليس للأطراف شأن فيه، فلا نحسب أنفسنا مجافين المنطق إذا ما قرأنا العولمة في ضوء مصادرها والعناصر التي تقودها وأهداف المركز الذي منه تنطلق.

المعنى الحقيقي للعولمة
ابتداء لابد أن نوضح المعنى الحقيقي للعولمة فنقول بأن العولمة (Globalization) تعني، وببساطة، محاولة إعادة صياغة العالم(1) اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وفقاً للرؤى والسياسات التي يتبناها المركز المنتج والمحرك لها، انطلاقاً من مفاهيمه عن الكون والإنسان والطبيعة والحياة.
وإذا كان التحديد الشائع لمفهومها يفيد بأنها تمثل حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال والاستثمارات والعمالة والأشخاص والمعرفة والمعلومات بين كافة أرجاء العالم في إطار من الحرية والعقلانية والديموقراطية ووحدة الإنسانية، بعيداً عن أي حد أو قيد أو أيديولوجية، إلاّ أنه، وبعيداً عن هذا التوصيف المعطر بالرومانسية والذي يبدو مغرياً للوهلة الأولى، لم يكن أمام الدارس لتاريخ هذه الظاهرة وما تحمله في صيغها الجديدة من أفكار واتجاهات وما تنطوي عليه من مضامين وأهداف، إلاّ أن ينتهي إلى حقيقة أساسية هي أن العولمة لا تمثل في جوهرها إلاّ آخر ما بلغته الرأسمالية من تطور، ولا تعبر في النهاية إلاّ عن احتياجاتها ومقتضياتها ومصالحها وأهدافها المتجددة التي هي بالضرورة احتياجات المركز ومصالحه وأهدافه، حتى وإن أصاب بعض سكان الأطراف شيئاً من ثمراتها، وهذا ما سيفسر لنا فيما بعد جملة التناقضات والمعايير المزدوجة التي تنطوي عليها عبر ممارسات مركزها المذكور.
ولا نريد بهذا التشخيص أن نتجاوز الإشارة إلى المعنى الأولي للعولمة الذي تدل عليه ماكان يتمخض عن حركة القوى والامبراطوريات الكبرى التي شهدها التاريخ ـ على اختلاف المراكز ـ من غلبة وانتشار لبعض القيم والعادات واللغات، لنؤكد من خلال هذا المعنى على حقيقة أن العولمة تظل إمكانية قائمة لكل من يمتلك القوة والغنى وعناصر التأثير.
غير أن حديثنا عن العولمة الغربية كتيار يعصف في جنبات هذا العالم ومن كل الاتجاهات، يقتضي التأكيد على أنها ليست ظاهرة فجائية، بل هي عملية تدريجية بدأت منذ الكشوف الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وماتلاها من امتداد استعماري وضع البلدان المستعمرة وشعوبها في حالة من التعامل مع لغات المركز ونظمه وثقافته وبعض أنماطه وسلوكياته السائدة، ناهيك عن تقبل أكثر الأطراف ـ وبشكل تلقائي ـ لبعض معطيات هذا المركز التي كانت تبرز في هذا السياق، كالتقويم الميلادي، والزي الأوربي، والألعاب الأولمبية، واستخدام الدولار، والجوائز العالمية، ومسابقات جمال الكون وغيرها.
وإذا كان يؤرخ لبروز العولمة ببداية التسعينيات باعتبارها تمثل المنعطف الذي ظهرت خلاله الظاهرة على نطاق واسع وعميق، فإنه يجب أن لانغفل حقيقة أن العولمة ما كانت لتبرز على هذا النحو لولا تضافر جملة من العوامل والمتغيرات المتسارعة:
بعضها تم في سياق التداعي الذي ترتب على الفعل التاريخي للمركز نفسه، كما في حالة الغزو الاستعماري والتراكم الرأسمالي، والانتشار الحضاري والنمو العلمي والاقتصادي، ومن ثم تدويل الرساميل ووحدة الأسواق المالية وتداخلها، ناهيك عن التغيرات العميقة التي حدثت في سوق العمل وأساليب الإنتاج، وفي تركز التجارة العالمية لصالح المركز وعولمة سلعه وعولمة الدعاية لها، وما واكب ذلك من بروز مؤسسات مالية دولية وظهور شركات عملاقة عابرة للقارات.
وبعضها تم نتيجة لسقوط قوى التجاذب والتوازن العالمي وما انتهى إليه ذلك من بروز القطب العالمي الواحد الذي أخذ ينفرد باتخاذ القرار، وهو ما بدا واضحاً بُعيد حرب الخليج الثانية التي دفعت نتائجها الرئيس الأمريكي " جورج بوش" إلى الظهور متباهياً، وهو يعلن عن ولادة ما أسماه بالنظام العالمي الجديد الذي أعقبته بالفعل الامتدادات المختلفة للعولمة وسقوط الجدران التي كانت تحول دون تغلغلها.
وبعضها تم بالفعل المباشر للمركز نفسه، كما في حالة تطوير صناعات القوة وفي مقدمتها صناعة الطيران والأسلحة الصاروخية وأجهزة الرصد وأدوات الحرب الإلكترونية، وما إلى ذلك من أدوات ملأت البر والبر والبحر والجو، ومنحت المركز القدرة على فرض سيادته ونفوذه ووجوده في مختلف الأرجاء، ومن ثم فرض تدخله في أي صراع أو نزاع يحدث في المعمورة.
وبعضها تمَّ بشكل تلقائي بفعل التطور المذهل الذي شهدته تقنيات الاتصال والفاعلية الأخاذة التي عرفتها الأجهزة الإعلامية في الغرب التي جعلت الناس في كل العالم يجتمعون على حدث واحد في بقعة واحدة في وقت واحد.
لقد وفر هذا التطور السيولة للثقافة الغربية وسهل لها الاختراق بما ساعدها على تنميط كثير من السلوكيات والاتجاهات لدى مختلف الأفراد والجماعات في العالم.
ناهيك عن التنوع والتطور الذي شهدته وسائل المواصلات وقطاعات السياحة التي وفرت مرونة الحركة والهجرة والسفر، ومن ثم التعارف والتبادل والتفاعل بين الناس بشكل مباشر وغير مسبوق.
لقد تضافرت كل هذه العوامل والمتغيرات لتعمق هذه الظاهرة وتوسع من نطاقات امتدادها وتأثيرها والتعامل معها في العديد من الحقول، حتى أضحت علاقاتها وفعالياتها واهتماماتها المتعددة تشي بشمولية تتجاوز علاقات القوة والمصالح التقليدية لتتوغل بعيداً في حياة البشر اليومية وتتدخل في العديد من اختياراتهم.
من هنا تختلف العولمة عن العالمية (Globalism)، حيث تفيد الثانية إمكانية أن يرتفع الطرح الخاص إلى مستوى أعم قد يكتسب حضوراً وتأثيراً وربما قبولاً عالمياً، لكن ليس عن طريق القهر أو الاختراق أو الإقصاء، كما تفعل العولمة التي تجاوزت في طموحها ـ وهي تنشط في فرض نظامها على العالم ـ كل الأيديولوجيات السابقة(2).
إن العولمة ليست مجرد أيديولوجية تتصارع مع أيديولوجيات أخرى، بل هي مشروع كبير وفاعل يعمل على إلغاء أي بديل آخر. ومن هنا تبدأ مخاطر العولمة وتبرز تحدياتها.

تجليات العولمة ومخاطرها في المجال العربي الإسلامي :
إذا أردنا متابعة ظاهرة العولمة الجارية في مجالنا العربي الإسلامي، بما تنطوي عليه من مخاطر وتحديات، فيمكننا أن نتلمس بعض تجلياتها على أكثر من صعيد.
أ) العولمة على الصعيد السياسي : ليس من شك أن نظام القطبين السابق قد أوجد توازناً بين القوى العالمية ووفر للعديد من النظم والشعوب الضعيفة وحركات التحرر غطاء ومجالاً للحركة والمناورة، وأوجد فرصاً لاسترداد بعض الثروات والحقوق، كما سمح بظهور تكتلات دولية دعمت على نحو ما ذلك التوازن وتلك الفرص، إلاّ أنه مع انهيار المنظومة الاشتراكية وانفراد القطب الواحد بالقرار أمست شعوب الجنوب وحيدة عارية أمام نموذج سياسي يضع نفسه بصفته الخيار الوحيد الذي لامناص من الارتباط به أو التكيف الإيجابي مع استراتيجياته.
ومن هنا يُسجل للعولمة السياسية سعيٌ ملحوظٌ في نهاية هذا القرن باتجاه إحداث التغيير في المناهج وصيغ التعامل في العلاقات الدولية، وإحلال مبادئ وقواعد وشروط جديدة تنفى من خلالها أية سياسة لا تستجيب لمتطلبات الغرب واستراتيجياته.
لقد مورس ذلك السعي عبر مختلف الطرق والأساليب، بدءاً بالضغط السياسي الذي يُوجَّه ضد الأطراف التي تصر على استقلالها في المنهج والاتجاه، أو التي تشكل عقبة أو إعاقة في وجه المشروع الغربي، أياً كان الموضوع أو الموقع فلسطينياً أو ماليزياً أو إيرانياً أو بلقانياً أو إندونسياً(3)، مروراً بمحاولات الاحتواء والتمهيد الجيو سياسي الذي يصب في خدمة العولمة، كما الحال في الحث على الدخول في الشرق أوسطية أو الشراكة الأوربية المتوسطية، وانتهاء باتخاذ إجراءات العزل أو المحاصرة أو المقاطعة أو افتعال القضايا الحقيقية أو الوهمية في وجه أي طرف يظل مصراً على الاحتفاظ باختياراته ومناهجه الخاصة، ناهيك عن وضع أطراف بعينها في قائمة ما يسمى بالدول الإرهابية أو التي ترعى أو تدعم الإرهاب.
ولعل من التجليات الواضحة للعولمة السياسية، التطبيع الذي جرى لدول القوقاز المسلمة عقب انفراطها عن منظومة الإتحاد السوفيتي بعد سقوطه، ثم انخراطها مع استراتيجيات العولمة. فقد لاحظنا كيف أنها ـ وهي تحاول إعادة بناء نفسها ـ بدلاً من أن تتوجه نحو مجالها الحضاري : العربي الإسلامي، توجهت نحو المركز الغربي وأخذت تتفاعل معه وتتناغم مع سياساته وتوثق علاقاتها الجديدة مع وكلائه في المنطقة وعلى رأسهم تركيا وإسرائيل، على الرغم من استمرار بعض القيادات الشيوعية السابقة على رأس تلك الدول!
لقد صرنا نسمع ونقرأ ونشاهد الصور الفجة للتدخلات الأمريكية والغربية في شؤون الآخرين، وتحت عناوين مختلفة : الحفاظ على الأمن الدولي أو التوازن الإقليمي، حماية الأقليات، حقوق الإنسان، مكافحة الإرهاب، مراقبة الانتخابات، إلى غير ذلك، حتى صار التلويح بضرورة إعادة النظر في مفهوم السيادة والتحدث عن مشروعية التدخل في شؤون ـ المخالفين أو المتجاوزين ـ أحد آليات الغرب وأساليبه المستحدثة في تسييد عولمته الجديدة في وقت يتم فيه الحرص على بقاء واستمرارية بعض النظم والحكومات التي يتمثل في سلوكها الانسجام والطاعة أو التي تشكل في مواقعها مراكز حيوية تخدم مصالح الغرب وتكرس نفوذه.
ب) العولمة على الصعيد الاقتصادي : تطرح العولمة النظام الرأسمالي كأنموذج أمثل لتنظيم الحياة الاقتصادية، لذلك تدعو الآخرين إلى عقيدة السوق وتحثهم على الانفتاح والاستماع إلى نصائح المؤسسات الدولية بالتكيف الهيكلي وتقليص سياسة الدولة التدخلية في مجال التعليم والصحة والتجارة والتوظيف والإنتاج وتمكين القطاع الخاص، والتوقيع على اتفاقية الجات والانخراط في شبكة الاقتصاد العالمي باعتبار أن كل ذلك هو السبيل الذي لابد منها لتحقيق النمو والتحديث والتقدم، فليس على الدول والشعوب إلاّ ترك مناهجها القديمة والمبادرة إلى ركوب هذا القطار السريع.
بصرف النظر عن إسقاط حرية الاختيار ضمن هذا الطرح ومحاولة صوغ الواقع برؤى محددة، فإن الواقع الذي تمخض عن الأخذ به أو ببعضه لم يثمر شيئاً يذكر، فالانفتاح على الاستثمار الأجنبي والزيادة في تنوع السلع والخدمات المستوردة واتباع آليات السوق وتغيير دور الدولة الاقتصادي والاستماع إلى نصائح أو شروط المؤسسات الدولية في هذا الشأن قد عمق الأزمة الاقتصادية وأتاح للمركز الرأسمالي مزيداً من التوغل والافتراس.
لقد كان من تجليات العولمة الاقتصادية في المجال العربي الإسلامي (دولرة) الأسعار، حيث ارتباط كثير من أسعار السلع والخدمات بمعيارها في دول المركز دون النظر إلى التفاوت بين الأجور التي ينالها العاملون في دول الأطراف الفقيرة والأجور التي ينالها نظراؤهم في تلك الدول الغنية، الأمر الذي أخذ يترك آثاراً سيئة على معيشة الناس وعلى أمنهم الاجتماعي.
ومن التجليات العولمية الخطيرة التي عرفها المجال الإسلامي هو ما عُرف بانهيار العملة الوطنية في سوق البورصة الذي تعرضت له ماليزيا نتيجة ارتباطها بسياسات العولمة المالية وعدم بنائها لنظام مصرفي قادر على الحيلولة دون ضربة قد يوجهها مضارب دولي (جورج سوروس).
إن الارتباط بالسوق العالمي والخضوع إلى قوانينه وشروطه التبادلية بما فيها مواصفات (الأيزو) وغيرها لا يتم إلا على حساب قوانين الاقتصاد المحلي واحتياجاته وظروفه. لهذا لا يمكن في ظل حالة عدم التكافؤ أن يقال بأن مثل هذا الارتباط من شأنه أن يحقق التعاون الإيجابي أو الاعتماد المتبادل أو المشاركة الحقيقية، ومن ثم النمو والرفاه الاجتماعيين.
من هنا لانرى في ظاهرة عقد المؤتمرات الاقتصادية التي يشهدها المجال العربي بين فترة وأخرى (الدار البيضاء، القاهرة، عّمان، الدوحة) إلا محاولات تطبيعية باتجاه العولمة وإغراء بالتبعية المحكوم عليها سلفاً بالخسران.

ففي بلدان تعاني أساساً من الضعف والتخلف والتفكك في الحقل الاقتصادي لايمكن أن يتحقق لها الإقلاع والنهوض بعولمة اقتصادياتها وجعلها مرتبطة بمركز طاغ لايسعه التعامل مع مثل تلك البلدان إلا بصفتها مصادر للطاقة والمواد الأولية وأسواقاً لتصريف بضائعه وخدماته أو في أحسن الحالات مساحات خلفية لبعض صناعاته الملوثة أو غير المرغوب فيها. حتى الصناعات الناجحة كصناعة السيارات مثلاً حين تنقل إلى بلد نام، فذلك لأسباب اقتصادية تعود بالفائدة على المُنتج ولاتمثل أية تنمية حقيقية للبلد المضيف.
إنه يمكننا القول بأن العولمة الاقتصادية في كل أبعادها الاقتصادية والتجارية والمالية هي بالنسبة لدول الأطراف ليست أكثر من (كرنفال) يجري من خلاله ترسيم التبعية والإعلان عن دفن التفكير بأي مشروع يسعى لتحقيق التنمية المستقلة.
ج) العولمة على الصعيد الثقافي والاجتماعي : إذا كان الغرب قد أحدث في مرحلته الاستعمار ية اختلالاً في كثير من النظم والتوازنات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي استعمرها، فإنه في مرحلته العولمية توغل أكثر من ذلك حين جعل الكثير من تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية موضعاً لعملياته العولمية، وعلى نحو شمل بعض ما يُأكل ويُلبس، ناهيك عّما يُقرأ ويُشاهد ويُسمع وفي موجات من التنميط التي من شأنها تحويل البشر إلى قطيع تسوده ثقافة واحدة وكأن الجميع يعيشون في قرية أوربية أو أمريكية.
إن الثقافة العولمية، وهي تكرس القيم الفردية والنفعية وترسخ النزعات المادية والاتجاهات العلمانية والمعايير الذاتية المغلفة بمفهوم الحرية، تسعى إلى إفراغ الهوية الجماعية من محتواها، مثلما تعمل على التفتيت والتشتيت عبر تشجيع الأقليات على الخروج والتناحر وتمزيق الهوية العامة للمجتمع(4).
ولعل ما بلغه المركز الغربي من تطور مذهل في مجال الإعلاميات والاتصال، أتاح لمنتوجاته الثقافية والمختلفة أن تصل إلى كل البقاع سواء أكان ذلك عن طريق الأفلام السينمائية والمسلسلات والبرامج التلفزيونية أو عن طريق الأنشطة الإعلامية وأفلام الكارتون وغيرها، وفوق أجنحة من الأقمار الصناعية وأشرطة من الفيديو وشبكات من الانترنت فضلاً عن الوسائل التقليدية، حتى سجل بذلك اخترقات ثقافية لا تُصدق.
لقد تمكن الغزو الثقافي في ظل عولمة الاتصال من تحطيم الحواجز اللغوية والجمركية ولم يعد مقتصراً ـ في ظل الصورة السمعية البصرية ـ على النخب، بل امتد إلى عموم الناس مشتغلاً بتسطيح الوعي عبر صور ومشاهد تثير الإدراك وتستفز الانفعال وتحجب العقل وتكيف المنطق وتشوش نظام القيم وتوجه الخيال وتنمط الذوق وتقولب السلوك لتجهز بذلك على الهوية الثقـافيـــة الفرديــة والجماعية(5)، على النحو الذي يجرد الطرف المُستَهدف من أية حصانة تمنعه من التخلي عن قيمه وعاداته ودائرته الثقافية التي ينتمي إليها.
ناهيك عن الدور الذي كانت ومازالت تلعبه جامعات المركز، وبخاصة الجامعات الأمريكية، التي تستقبل مئات الآلاف من الطلبة العرب والمسلمين، وما تحققه عبر الكثير منهم من نقل كثير من القيم وطرق التفكير وأنماط السلوك.
وفي ظل تفاعل عدد من السكان في مجالنا العربي الإسلامي مع ظاهرة العولمة، برزت على الصعيد التربوي عملية الإنتاج المحلي لثقافة الغرب عبر تأسيس المدارس الأجنبية والخاصة التي تعتمد المناهج التربوية والتعليمية الأجنبية، بما في ذلك لغة الدراسة، كما أن عدداً من الدول أخذت تستحدث أقساماً لتدريس اللغات الأجنبية بالمصروفات في داخل الكليات الجامعية جنباً إلى جنب مع الأقسام التي تقوم بالتدريس باللغة القومية ..!.
ومن تجليات العولمة الثقافية على الصعيد العام ما بتنا نشاهده من تفاقم لظاهرة طغيان اللغة الإنجليزية على أسماء المحلات والشركات والعمارات، فضلاً عن أسماء بعض المنتجات والمصنوعات المحلية، ناهيك عن أن بعض المؤسسات لم تعد تمارس أعمالها إلاّ بتلك اللغة وتلزم الشباب عند التقدم لبعض الوظائف أن يكتبوا بياناتهم بها دون مبرر، بل إن بعض الشركات صارت لا تحرر عقودها إلاّ باللغة الأجنبية.
وإنه لمن مفارقات المشهد الثقافي العربي أن يتحول عدد ممن عُرفوا بتشددهم في مواجهة المركز وثقافته إلى أشد المتحمسين للقاء مع الكيان الإسرائيلي، حتى بلغ الأمر ببعض المستجيبين إلى اعتبار مقولة التناقض مجرد حالة سيكولوجية مبعثها التخلف وعدم القدرة على استيعاب روح العصر والافتقار إلى روحية التعايش والحوار، وليس لطفي الخولي وجماعة كوبنهاجن إلا مثالاً اتسعت على خلفيته ظواهر النكوص التي تجلت بطغيان مفردات الحداثة والتطبيع والتسوية وثقافة السلام على مفردات كان لها وقعها المؤثر كالالتزام والرفض والنضال والجهاد.
لهذا لا عجب أن تحتضن العولمة الثقافية هؤلاء الناكصين مثلما احتضنت من قبل كل الأصوات المتنكرة لتراثها والمتمردة على ثوابت أمتها أمثال سلمان رشدي وتسليمة نسرين (6) وغيرهم ممن سبقوهم أو لحقوا بهم في هذا الحقل أو ذاك، في وقت ظلت تهمة التطرف والإرهاب لا تكتفي بملاحقة المتطرفين والإرهابيين بل امتدت إلى من يلتزم بخصوصيته وأصالته ويرفض التبعية أو الذوبان أو لا يرضى بإهدار الحقوق.
لقد أضحى التمسك بحق الممارسات الثقافية الطبيعية والمشروعة فعلاً منكراً في زمن العولمة وعُدَّ شكلاً من أشكال التعصب والممانعة الثقافية المرفوضة وهو ما عبر عنه الموقف الفرنسي من الفتيات المسلمات اللاتي كن يرفضن تغيير اختيارهن في الزي الذي يرينه يتناسب ومعتقداتهن الدينية، مثلما عبر عنه من قبل الموقف الأمريكي المتعسف من منظمة اليونسكو حين طالبت ـ في ظل مديرها (أحمد إمبو) ـ بحقوق متكافئة على صعيد الإعلام بين دول العالم الثالث والدول الغربية.
إن المركز لم يألُ جهداً من ممارسة اختراقاته عبر مختلف القنوات والأساليب، فالجمعيات الأهلية التي يُطلق عليها (منظمات المجتمع المدني) على الرغم من أنها ليست غريبة على النشاط العام في المجتمعات العربية والإسلامية، ويمكن لها أن تقوم بأدوار إيجابية على أكثر من صعيد، إلاّ أن تكاثرها المفاجيء، وارتباط العديد منها بالمراكز والمؤسسات الغربية هو أحد تجليات العولمة، كما أن المؤتمرات الدولية التي تعقد تحت مظلة الأمم المتحدة كمؤتمر السكان والتنمية (القاهرة 1994) ومؤتمر التنمية الاجـتماعية (كوبنهاجن 1995) ومـؤتـمـر المـرأة (بكـين 1996) وغيرها، هي في الحقيقة من جملة القنوات التي يمارس من خلالها المركز العولمي اختراقاته. لقد تضمنت جداول أعمال هذه المؤتمرات قضايا خلافية كتلك التي تتعلق بالجنس والإجهاض والميراث واختيار الدين ونحوها. وهي برغم تمثيلها لوجهة نظر غربية فقد قُدمت على اعتبارها قيماً عالمية، وحُذر من يعارضها بحرمانه من المساعدات(7).
والأغرب أن تتجاوز عولمة الغرب الثقافية هذه القنوات والآليات لتلجأ إلى التدخلات الثقافية السافرة التي تخالف كل الأعراف الدولية، على نحو ما شاهدناه من تدخل الولايات المتحدة الأمريكية ـ وعلى مستوى خارجيتها ـ بقضية اجتماعية بحتة كقضية ختان البنات في مصر، وعلى نحو ما سمعناه قبل سنوات من اعتراض بعض الإدارات الفرنسية ضد الفعل الثقافي التي باتت تتركه ـ على تواضع ذلك الفعل ـ بعض الفضائيات العربية على الجاليات العربية والمسلمة هناك، ولجوء تلك الإدارات إلى فرض ضرائب على من ينصب الأطباق اللاقطة بل ومنعها أحياناً بحجة أن ذلك يعيق الدمج الثقافي المعمول به مع هؤلاء المهاجرين.
إن عرضنا المتقدم لبعض تجليات العولمة التي تشكلت بفعل التأثير الضاغط المباشر أو غير المباشر، لا يلغي حقيقة أن التعولم يجري لدى الكثير من الأفراد وعلى مستوى العديد من المفردات على نحو تلقائي، ولعل في اعتياد طرائق الأكل الغربية من خلال مطاعم كنتاكي وماكدونالد وومبي، وارتداء الأزياء والموديلات التي تصدرها المراكز الغربية فيه ما يؤكد على حالة الاستجابة التلقائية لثقافة الآخر.
د) العولمة على الصعيد العسكري : للقوة العسكرية التي يمتلكها المركز دور حساس وفاعل في مشروع عولمة العالم. فالغرب، ومن أجل إخضاع الأطراف، كان ولازال يمارس تقدمه وتفوقه العسكري وينفق على بحوث التقنية في هذا الحقل الكثير من الأموال، كما يسعى للانفراد باحتكار أسلحة الدمار الشامل والحيلولة دون حيازتها أو حيازة ما يخدمها من أسلحة جوية وصاروخية من قبل أي طرف، ولهذا نراه يصنف من يحق له امتلاك السلاح ومن لا يحق له امتلاكه، ويجتهد في السيطرة على نظم الرقابة في مجالات التسلح ويعمل على نزع أسلحة الدمار الشامل أو الحيلولة دون امتلاكها سواء بحجج صحيحة أو غير صحيحة. وليست معاهدات حظر انتشار الأسلحة النووية ومعاهدات حظر إنتاج الأسلحة الكيماوية والبايولوجية ومعاهدة الحد من إنتاج الصواريخ ذاتية الانطلاق (الباليستية) إلاّ وسيلة لمنع امتلاك مثل هذه الأنواع الحساسة من قبل دول الأطراف، وبناء على ذلك فقد اعتبر حلف الأطلنطي في اجـتمــاعــات واشــنــطــن عام 1999 وبمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيسه أن كل مساس بالتوازن العسكري والسياسي القائم يمثل عملاً عدائياً خطيراً يستوجب الردع والعقاب.
وانطلاقاً من ذلك، أخذ الغرب يؤسس لقيم جديدة في نظام القوة والعلاقات من شأنها إلغاء أو تعديل العديد من نصوص القانون الدولي المتعارف عليها، كما في حالة عدم تفرقته بين ما هو عسكري وما هو مدني، إذ حين تمثل المباني والأحياء في نظره جزءاً من منظومة القوة لدى الجانب الآخر فإنه لا يتردد عن قصفها، وقد رأينا تجسيد ذلك في بعض عملياته الحربية التي نفذها في العراق وصربيا، ناهيك عن استعداده لتوسيع نطاق التدخل ليطال كل من يفكر بالتمرد على ما تصنعه يداه من حدود وضوابط.
وإذا كان الخطاب المعلن لهذه الاستراتيجية يتحجج بامتلاك ـ أو الشروع بامتلاك ـ حكومات دكتاتورية أو غير مسؤولة لأسلحة من شأنها أن تهدد أمن العالم، إلاّ أن الحقيقة هي أبعد من ذلك، إذ يستهدف الغرب ـ وبخاصة أمريكا ـ تطويق شعوب بعينها والحيلولة دون امتلاكها لأي سلاح رادع قد يساعدها على صيانة اختياراتها الثقافية والسياسية والاقتصادية.
إن الغرب إذا كان قد استطاع بمزيد من الجهد والضحايا أن يعولم حروبه الأولى والثانية، فإنه في ظل الحرب الصاروخية والإلكترونية لم يجد ثمة صعوبة أو معاناة تحول دون توسعه وإصراره على عولمة القوة، لهذا أمست العولمة على هذا الصعيد تمثل واقعاً حاداً وخطيراً أكثر من كونها نظـرية أو مفهوماً يمارس التجاذب أو الصراع. وإذا تذكرنا هنا عبارة روزفلت التي قالها في نهاية الحرب العالمية الثانية (الآن يجب أمركة العالم)، فيجب أن لاننسى عبارة بوش التي قالها بعد حرب الخليج الثانية: (الآن بدأ النظام العالمي الجديد).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق