السبت، 16 مايو 2009

خطر العولمة الثقافية

حامد عبد الله العلي

الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء محمد وعلى آله وصحابته وبعد :
فإن الدعوة إلى العولمة الثقافية لا تخرج في حقيقتها عن محاولة لتذويب الثقافات والحضارات وإلغاء الخصوصيات الحضارية لصالح حضارة الغالب .. وعالم المسلمين بعد أول المستهدفين .. ذلك أن الثقافة الإسلامية التي تشكل هوية الأمة وقسمات شخصيتها الحضارية هي في ثوابتها من لأن الدين ليس أمرًا مفصولاً عن الثقافة.
أعمدة الهيمنة الأربعة :
ولقد أصبح من الواضح في تحميل السياسة العالمية بصورة عامة منذ تفرد الولايات المتحدة بكونها القوة الكبرى المهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أن العولمة ما هي إلا أحد الأعمدة الأربعة التي أوثقت بها دول القلب (الولايات المتحدة وأوروبا)، التي تشكل موقع صناعة القرار العالمي، ما حوتها من العالم في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية والتي غدت لا تعني سوى كونها سوقًا مريحة أو ساحة مصالح لدول القلب أو ثقلها بهذه العمدة لتجبرها على البقاء تحت هيمنة دول القلب، تجري في فلكها لتضمن تحقق السيطرة الكفيلة ببقاء تفوق الغرب على الشرق والشمال على الجنوب، وتدفق المصالح الاستراتيجية من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.
وأما الأعمدة الثلاثة الأخرى فهي :
الشريعة الدولية: حيث تحتكر دول القلب هذه الشرعية المتمثلة في (الأمم المتحدة) وتستعملها لإسباغ الشرعية أو نزعها عن أي دولة تحاول التخلص من الوثاق ذي الأعمدة الأربعة التي أوثقت به دول القلب العالم، ولم يعد بهم دول القلب أن تتعسف وتتناقض وتكيل بمكيالين في استعمال أداة (الشريعة الدولية) فتصدر قرارًا من مجلس الأمن لعقاب من تريد .. لأنه أعلن رفضه لقانون الهيمنة الذي فرضته دول القلب على العالم، بينما تكتفي بموقف المتفرج في حالات أشد خطورة وانتهاكًا لحقوق الإنسان وقيم الأمم المتحدة لسبب واضح وهو أن دول القلب لم تشعر بالحاجة على تحريك الشرعية، هنا لضمان مصالح أو تأديب خارج على قانونها. قانون الهيمنة والسيطرة.
السلاح ، وبوسيلة هذا العمود تتحكم دول القلب بالحروب والتوترات العالمية وتأجج أو تخمد مناطق الصراع العالمية على وفق مصالحها.
والخامات: مثل النفط والقمح، وبوسيلة هذا العمد تتحكم دول القلب بالتنمية والتطور والتكنولوجيا أيضًا في الدولة الواقعة في أحزمة مصالح دول القلب، وذلك وفق مصالحها وبما يضمن بقاء تفوقها وتدفق المصالح الاستراتيجية إليها.
والعولمة تعتمد على محورين أساسيين :
المحور الأول : التجارة العالمية .
المحور الثاني : الإعلام الذي يحمل الثقافة والفكر .
والعولمة التجارية يقصد بها ضمان تدفق رؤوس الأموال الغربية إلى أسواق العالم، وضمان تدفق المصالح المادية نحو دول القلب كما تقدم والعولمة الإعلامية يقصد بها إخضاع العالم لقيم العالم الغربي.
الموقف من العولمة الفكرية والثقافية:
يمكن تلخيص المواقف تجاه العولمة في أربعة:
الأولى : الموقف القابل للعولمة الذائب فيها والمؤيد لها تأييدًا مطلقًا .
الثاني: الموقف الرافض لها جملة وتفصيلاً.
الثالث : الموقف الملفق الذي يحاول التلفيق بين ما تحمله العولمة والإسلام.
الرابع : الموقف المتفاعل معها على أساس الانتقائية المشوبة بالحذر.
أما الموقف القابل بإطلاق فهو موقف تابع، وقد جلب ولا يزال يجلب سلبيات الحضارة الغربية لأنه موقف قائم على الخلط بين مقومات الحضارة الإنسانية التي هي بناء فكري ينبثق منه منهج التعامل مع الخالق والحياة والإنسان والكون، وبين الآلات والتكنولوجيا التي هي منجزات علمية مشتركة بين الناس .. فالأول هي الحضارة وهي لا تستورد ولا تشتري ولا يمكن نقلها من أمة إلى أمة ولا بإحداث انقلاب جذري استئصالي.
وأما الموقف الرافض فهو موقف خاسر غير واقعي وسيؤدي إلى الانكفاء والانعزال فالموت الحضاري.
وأما الموقف الملفق وهو الموقف الذي يتزعمه بعض من يسمون أنفسهم الليبراليين في عالمنا العربي. والذين يعتبرون أنفسهم معتدلين لأن المتطرفين منهم هم أصحاب الموقف المؤيد تأييدًا مطلقًا للعولمة .. ويدندن حول هذا الموقف من يسمون أنفسهم (اليسار الإسلامي) أيضًا .. وهاتان اللفتتان تضيعان وقت الأمة بممارستهما عمليًا (قص والزق) وبتر لبعض قيم الأمة وعزلها من سياقها المتكامل لإخضاعها للفلسفات المعارضة، وما هذا الصنيع إلا تكريس لإلغاء الذات أو لتشويهها لصالح الأجنبي.
وأما الموقف الرابع القائم على التفاعل الحضاري الناقد والانتقالي الحذر، الذي يقوم على الفحص والتدقيق وتقليب الشعارات والتنقيب عن المسميات، فيكشف ما تحت بريق العولمة من الظلمات كالإباحية والمادية النفعية، والميكافيلية الشريرة والاستغلال الرأسمالي للإنسان باسم التحرير، وفلسفة اللذة والمتعة وعبادة الدنيا، ثم يأخذ ما في العولمة من الصواب والخير بعد التمييز والتفتيش والنقد الموضوعي المنبثق من الثقة بالذات والاعتزاز بالهوية، ويرفض ما في العولمة من الشر والضلال.
الموقف الصواب من العولمة :
وهذا الموقف لا شك أنه هو الحق الذي يجب اتباعه، وأصله في الشريعة الإسلامية قول النبي صلى الله عليه وسلم : (.. حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وورد في بعض ألفاظه: (ولكن لا تصدقوهم.. ولا تكذبوهم) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .. ووجه الاستدلال به أنه إذن بالتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي مع ما عند أهل الكتاب، غير أنه صلى الله عليه وسلم يرفض ما يعارض القرآن وقبول ما يوافقه والحذر مما لا يعلم صدقه من كذبه.
وحتى نبرهن على صحة هذا الموقف من العولمة، نقف عند أهم أخطارها الثقافية والفكرية على اعتناء لتأخذ حذرها وتدرك كيفية التعامل مع وجهة العالم الجديد، مما يمكنها عن إبلاغ رسالتها وإلحاق الرحمة بالعالمين قيامًا بدورها في الشهود الحضاري.
أهم أخطار العولمة :
تعرف العولمة مطلقًا بأنها ظاهرة لانتماء العالمي بمعناه العام، وهي تعبير مختصر عن مفاهيم عدة فهي تشمل الخروج من الأطر المحدودة ـ الإقليمية والعنصرية والطائفية ـ وغيرها إلى الانتماء العالمي الأعم .. ففي جانبها الاقتصادي تشمل الانفتاح لتجذري وإلغاء القيود التجارية، وتوفير فرص لتتبادل التجاري الواسع محكومًا بقواعد السوق فقط بدون وجود إجراءات حمالية حكومية .. وفي جانبها الفكري والثقافي هي الانفتاح الفكري على الآخر وعدم الانغلاق على الذات، ورفض التعصب الفكري الذي يدعو لإلغاء الآخر: لا لشيء سوى أنه مغاير للفكر .. وفي جانبها السياسي هي شيوع تطبيق القانون على الجميع ومراعاة الحقوق السياسية للإنسان.. فهي باختصار الشعور بالانتماء الكبير العالمي بدلاً من الاقتصاد على الانتماء المحلي الإقليمي (الديني، العنصري، الطائفي).
لكن هذا العرض اللطيف الذي حاول تجميل وجه العولمة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقتها التي ينطوي عليها أهدافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق