السبت، 16 مايو 2009

من أهم التحديات التي تطرحها العولمة أن نعرف كيف نحافظ على خصوصياتنا الثقافية دون أن يحول ذلك بيننا وبين التفاعل الإيجابي مع العولمة.
لقد أصبحنا نعيش في عصر اختزال المسافات وتقدم وسائل الاتصالات والمعلوماتية ولكننا مازلنا نتساءل كيف سيتم الحوار بين سكان هذه القرية الضخمة التي يتحدثون عنها في إطار العولمة? هل يا ترى سيتحدث الجميع لغة واحدة أم ستنشط حركة الترجمة من وإلى جميع اللغات الحية التي يتعامل بها البشر على كوكب الأرض? وهل سيكون لكل شعب من الشعوب خصوصيته الثقافية أم سيصبح جميع سكان (القرية الضخمة) ذوي ثقافة واحدة موحدة أيضا? ثم ما مصير تعدد اللغات والثقافات في الكيان الموحد الواحد في إطار العولمة?
إن الاتحاد الأوربي الذي يسعى حاليا إلى ترسيخ هوية أوربية جديدة سياسيا واقتصاديا ونقديا يرفض بشدة العولمة الثقافية التي تريد الولايات المتحدة فرضها عليه وعلى العالم أجمع ويتشبث بالخصوصيات الثقافية الأوربية. ولعل من أشد الدول والشعوب رفضا للعولمة الثقافية وتمسكا بالخصوصية الثقافية هي فرنسا التي تتمسك بموقف متشدد في هذا الصدد والتي اتخذت إجراءات قانونية صارمة سواء داخل فرنسا أو خارجها للمحافظة على لغتها الفرنسية. لقد سنت فرنسا قانونا يحظر استخدام اللغة الإنجليزية في وسائل الإعلام الفرنسية وفي التجارة وفي المحلات التجارية... الخ, وكذلك خارج فرنسا في محافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية حيث ترفض فرنسا رفضا باتا قبول أي قرارات أو وثائق أو مستندات باللغة الإنجليزية وتصر على أن تقوم الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بترجمة ذلك إلى اللغة الفرنسية.
أما نحن في الدول النامية فإننا مبهورون بالتقدم التكنولوجي الهائل الذي حققه الغرب في مجال الاتصالات والإنترنت وفي العلوم الطبية وخاصة في البيولوجيا مع اكتشاف الجينوم البشري أي الخريطة الوراثية للإنسان مما سيقلب كثيرا من المفاهيم ويزلزل كثيرا من المعتقدات, ولكننا في الوقت نفسه نواجه تحديات عصرية حادة إذ كيف يمكننا أن ننمي الوعي الكوكبي عند أبنائنا ليستطيعوا الاندماج في النظام العالمي الكوكبي الجديد مع المحافظة في الوقت نفسه على خصوصياتنا الثقافية المرتكزة على أصول وثوابت ديننا الإسلامي الحنيف. لا بد لنا أن نقف في مواجهة تيار العولمة الثقافية الذي يهدف إلى فرض ثقافة القوة العظمى الوحيدة في العالم حاليا وهي الولايات المتحدة الأمريكية والتي تحاول الهيمنة على ثقافات العالم بعد أن خلت الساحة من سائر القوى الكبرى التي كانت تقف لها بالمرصاد. يجب علينا أن نثبت وجودنا على الساحة وأن نجعل خصوصياتنا الثقافية العربية الإسلامية تتفاعل مع الثقافة الأوربية والثقافة الصينية والثقافة اليابانية والثقافة الهندية ومختلف ثقافات أمريكا اللاتينية, لأن تفاعل كل هذه الثقافات بعضها مع البعض الآخر سيؤدي إلى مواجهة الثقافة الأمريكية والوقوف في وجهها حتى لا تبتلعنا جميعا.
الخصوصيات الثقافية الإسلامية
إن أول خطوة في طريق الحفاظ على الخصوصيات الثقافية هي إثبات الهوية والحفاظ عليها فهل لدينا أزمة هوية في الدول العربية والإسلامية? أو بالأحرى ما مكونات الهوية العربية الإسلامية التي نريد أن نثبتها ونواجه بها الهوية الأمريكية خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر التي فجرت قضية حوار الحضارات وليس تحدي أو صراع الحضارات كما حاول بعض مفكري الغرب ترويجه? إن إثبات هويتنا قضية شائكة ستدخلنا في متاهات ولكن ما نستطيع أن نؤكد عليه ونثبته ونتمسك به هو الخصوصية الدينية أي الدين الإسلامي كمنبع للثقافة وللحضارة العربية الإسلامية.
إن جوهر الدين الإسلامي الحنيف هو توجيه استخلاف الإنسان في الأرض حتى يتصل إلى إقامة أمة متوازنة (أمة وسط) يسود فيها السلام والعدل والمساواة الإنسانية بين الناس جميعا فيعيش الإنسان حياة متسقة مع حركة الكون. والخطاب القرآني يحث المسلمين بل الناس جميعا على التعارف فيما بينهم يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... , والتعارف فيما بين الناس يبدأ أول ما يبدأبالحوار فيما بينهم.
ويحدد لنا القرآن الكريم الأصول التي يجب أن تكون أساسا للحوار ويضع ثوابت لهذا الحوار مثلما جاء في الآيتين الكريمتين ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن, و ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .
إن الإسلام يخاطب الناس جميعا ولم يرد في الخطاب القرآني تفضيل قوم على قوم آخرين وإنما يعتبر الناس جميعا أمة واحدة: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون, ولا يقر الإسلام العنصرية أو التحيز لجنس على آخر أو تفضيل لون على لون وإنما جاء ذكر الألوان في الخطاب القرآني للدلالة على قدرة الله في الخلق: ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين, وجاء الحديث الشريف ليؤكد على أنه لا فضل لقوم على قوم أو للون على لون وإنما معيار التفضيل عند الله يرتكز على دعامة مختلفة تماما: كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى, إن أكرمكم عند الله أتقاكم (حديث صحيح). هذه هي المساواة المطلقة بين البشر دون تفرقة أو عنصرية أو تمييز بسبب الجنس أو اللون أو العرقية أو اللغة أو حتى الدين, مادام المعيار كما جاء في الحديث الشريف هو لفظ (التقوى) وليس (الإسلام).
إن هذه المبادئ التي أرساها الدين الإسلامي وأعلنها الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) منذ 14 قرنا من الزمان هي المبادئ والمعايير نفسها التي أقرها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان من 50 عاما فقط حيث نصت المادة الثانية من هذا الميثاق على الآتي: (جميع الأفراد لهم الحقوق والحريات نفسها من دون تفرقة من أي نوع مثل الجنس أو اللون أو النوع أو اللغة أو الدين أو الآراء السياسية أو الوطنية أو الوضع الاجتماعي أو الملكية أو الميلاد أو أي أوضاع أخرى).
السِّلْم هو القاعدة
لقد أكد الإسلام على كل هذه المبادئ كمعايير أساسية للحياة في مجتمع يسود فيه الأمن والسلام وهو ما تنادي به الأمم المتحدة منذ إنشائها. إن السلام والسلم ومشتقاتهما من المصطلحات القرآنية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من مائة آية بينما لم تذكر مصطلحات الحرب ومشتقاتها إلا ست مرات فقط, ولا عجب في ذلك فكلمة (إسلام ) نفسها مشتقة من (سلم), فالإسلام يدعو كل الذين آمنوا, وليس المسلمين فقط, للدخول في السلم: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
فالسلم إذن هو القاعدة أما الاستثناء فهو خطوات الشيطان التي تقود إلى الهلاك وإلى الحروب وحتى إن كانت الحروب قدر على الإنسان أن يخوضها فهو يفعل ذلك كارها: كتب عليكم القتال وهو كره لكم. ولا يستقر السلام إلا على أساس من العدل بين الناس جميعا واعتبار الناس جميعا سواسية وإن اختلفوا في أطوالهم وأحجامهم إلا أنهم يكملون بعضهم بعضا: الناس سواسية كأسنان المشط (حديث شريف صحيح).
من منطلق هذه المفاهيم الإسلامية نستطيع أن نؤكد أن الإسلام أقر المساواة بين البشر والعدالة كميزان للعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد وفيما بين المجتمعات حيث حث الخطاب القرآني على احترام العقود والعهود والمواثيق: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها. هذا حث صريح على احترام المواثيق عامة أي المواثيق والعهود مع المسلمين وغير المسلمين, مع كل البشر, وهذا المبدأ هو أساس المواطنة الإنسانية لأن احترام الكلمة (الأيمان) أو العهد يجعل التعامل بين الناس والشعوب مبنيا على الثقة والوفاء والالتزام مما يجعل التعاون والتكافل والتعاضد مفاهيم يجب أن تسود بين الناس جميعا على ركيزة من البر المطلق: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان .
على هذا الأساس فإن الحوار بين الشعوب والحضارات يكون بالتعاون على الخير والابتعاد عن العدوان وذلك لصالح الإنسانية فلا يستطيع أي شعب أن يعيش ولا أي دولة أن تستمر إلا بالاندماج في المجتمع الدولي لتكون عنصرا فعالا من عناصر الأسرة الدولية وتواكب التطور والتقدم في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والصناعية والتكنولوجية والثقافية. والهدف من الحوار مع الآخر خاصة مع الغربيين هو الوجود الإسلامي على الساحة الدولية خاصة في المحافل الدولية عبر المؤتمرات العالمية التي تعقدها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لوضع الأسس والمعايير الحديثة للمنظور الجديدة للعالم وحتى تؤثر ثقافتنا العربية الإسلامية في الثقافات الأوربية والثقافة الأمريكية مثلما نتأثر نحن بهما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق