الاثنين، 4 مايو 2009

هل العولمة ظاهرة تلقائية أم منتوج قوة؟
هناك من يتحدث عن العولمة وكأنها حركة تلقائية وليس وراءها منظم أو قائد كـ (توماس فريدمان) وغيره، فيما الحقيقة أن حياة البشر ليست متروكة للمصادفة البحتة، وأن أي تغيير يطرأ عليها لابد أن يرتبط بقوى تقف وراء ذلك التغيير.
صحيح أن ما يميز ظاهرة العولمة الجديدة أنها نشأت وانتشرت دون أن يسبقها في بعض جوانبها تصور متكامل أو بلورة فكرية عميقة الأبعاد، إلاّ أن حركة الوقائع تثبت ـ وكما سبق أن بينا ـ على أنها نتاج داخلي للرأسمالية المعاصرة، وأحد معطيات النظام الغربي الحديث الذي هو أساساً، ومنذ نشأته، يسعى إلى البحث عن المواد الأولية والأسواق والسيطرة على مصائر الشعوب الأخرى(8) واحتوائها.
لذلك لا يصح أن تُفهم هذه الظاهرة كمجرد تجلّ للتطورات التقنية وثورة المعلومات والاتصال وغيرها من المتغيرات العلمية والفنية الحديثة. غير أن ذلك لا يمنعنا من القول بأن التداعي الذي أدت إليه الثورة الصناعية والظاهرة الاستعمارية وثورة المعلومات وتطور الاتصال، وما رافق ذلك من تغيرات اقتصادية وثقافية وسياسية، قد دفع البعض النظر إلى هذه الحركة بصفتها ظاهرة تتصف بالحتمية والتلقائية، خاصة وأن السماء في زمانها أضحت مفتوحة، والسلع المستوردة تدخل كل بيت والسفر أو الاتصال دون انتقال غدا من الأمور الشائعة بفضل تقنيات الفاكس والفيديو والبريد الدولي السريع والتسوق الألكتروني والأنترنت والأقمار الصناعية التي هيئت جميعها إلى ما يمكن تسميته بالتفاعل الكوني الذي بدا وكأنه سلوك تلقائي وسمة حتمية من سمات هذا العصر، إلا أن الحقيقة الأخرى التي يتعين تأكيدها في هذا الخصوص هي أن دول المركز بما تمتلكه من عناصر القوة والفاعلية قد هيأت شروط تلك الاستجابة الإنسانية العامة، إن لم نقل عملت على اصطناعها في إطار خطط واستراتيجيات مدروسة، حتى أنها لم تنس، وهي في غمرة ما حققته، أن تبحث عن المزيد من الطرق والوسائل لترويج الظاهرة موضع البحث. وليس ما يُقدم عبر البنك الدولي وصندوق النقد من دعوات لكبار صحفي العالم الثالث لإلقاء محاضرات عن (حتميتها)، إلاّ أحد الأمثلة على ذلك السعي المقصود.
إن إشاعة مصطلح العولمة صار يوحي بأن العولمة لم تعد خياراً بل هي ظاهرة طبيعية وكأنها تعبر عن حقيقة الأشياء وتمثل حركة حتمية في هذه الحياة، وهو ما لا ينفك يؤكد عليه منظرو الحقبة من الغربيين مفكرين كانوا أو سياسيين، الأمر الذي أدى إلى تكريس الوهم في نفوس وأذهان الكثيرين الذين باتوا يعتقدون بأن هذا هو منطق العصر الذي يتعين تفهمه واستيعابه والقبول به أو التكيف معه على أقل تقدير، وهو ما أمسى بالفعل لهجة يلهج بها حتى ممن نحسن الظن بهم. ومن ذلك قول أحدهم بأن لا خروج لنا من دائرة النظام العالمي الجديد اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً، لأنه لا خيار لنا في ذلك، فأدوات هذا النظام قادرة على اختراق كل الحدود وكل بيت حتى بيوت الشعر على أطراف الصحراء.
تلك هي بعض تداعيات إرادة القوة والاحتواء والتأثير التي دفعت ـ دون تبصر أو إدراك كافيين ـ بعض سكان الأطراف إلى تقبل الاعتقاد الغربي المتمركز حول الذات الذي يرى بأنه ليس أمام عالم الجنوب ـ بحكم تكوينه وثقافته ـ غير الانضواء تحت ظل المركز الجبار. كما تتكشف أمامنا حقيقة أن العولمة، بقدر ما تنطوي على نزعة التمركز، هي أيضاً مشروع استكباري يسعى لإلغاء كل خصوصية واختلاف، وعلى نحو ما ذهب إليه (فوكوياما) حين أغلق الباب أمام المغايرة أو النقد أو إمكانية الفعالية الفكرية (9) التي قد يوفرها التباين والحوار الحضاري بين الشعوب.
ومن هنا تبدو الغرابة واضحة حين توصف العولمة بأنها ظاهرة تلقائية لا هوية لها ولا عقيدة، مع أن أي محلل لمضمونها وعناصرها، وأي متفحص لحركتها واتجاهاتها ومعطياتها سيدرك مصدرها الغربي وهويتها الرأسمالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق