الأحد، 3 مايو 2009

العولمة ( تاريخ المصطلح ومفهومه ) - عبد المجيد راشد
محامى بالإستئناف العالي ومجلس الدولة / باحث دكتوراة بقسم الإقتصاد بحقوق المنصورة وحاصل على درجة الماجستير في الإقتصاد / عضو لجنة التنسيق المركزية بحزب الكرامة
المبحث الأول
تاريخ مصطلح العولمة
يحدد انتوني جيدنز AnthonyGiddensفي كتابه "الطريق الثالث.. تجديد الديمقراطية الإجتماعية" الصادر في 1998 )1(.. تاريخ المصطلح بعشر سنوات سابقة على كتابه "فالكلمة لم تستخدم في الأعمال الأكاديمية أو الصحافة الشعبية إلا منذ عشر سنوات فقط، وتحولت الكلمة التي لم يكن لها مكان إلى كلمة على كل لسان، فلا يكتمل خطاب سياسي، أو دليل لرجال الأعمال إلا بالإشارة إلى هذه الكلمة.
ويرى د. صبري حافظ أن الصورة الجنينية الأولى لمصطلح العولمة هو تعبير "القرية الكونية" Global village والذي صاغه مارشال ماكلوهان في أواخر الخمسينات، فقد إهتم ماكلوهان ببلورة فكرة تقليص سرعة حركة المعلومات للمسافات الجغرافية في كرتنا الأرضية التي تحولت إلى مجرد قرية واحدة يعرف كل شخص فيها ما يدور في أي مكان بها وعلاقة تغير مفهومنا للزمن وللمكان بتغير مفهومنا للثقافة وللإنسان ذاته، وبفتح آفاق جديدة أمام الإنسان بما يترتب عليها من بلورة لطاقات جديدة وإقتحام لمجالات لم يسمع فيها وقع لقدم بشرية من قبل. ومع هذا لم تظهر فكرة العولمة في الستينات ولا حتى في السبعينات، وبالرغم من أن السبعينات شهدت بداياتها الجنينية، ولم نسمع عنها بهذا الشكل المطرد إلا بعد مجموعة من التغيرات السياسية المهمة التي أعقبت سقوط حائط برلين وإنهيار المعسكر الإشتراكي والحديث عن نهاية التاريخ. )2(
ويرجع د. رمزي زكى بتنظيرات الإقتصاد السياسي حول العولمة المالية إلى عام 1910 وذلك بمجهود المفكر النمساوي رودولف هلفردنج ومروراً بالعديد من الإقتصاديين والمفكرين الذين كتبوا في عالم ما بعد الحرب عن رأس المال ومشكلات تصدير رؤوس الأموال من البلدان الصناعية الرأسمالية، وذلك في إطار تحليلهم لقضايا التوازن العام للرأسمالية الإحتكارية، وتحليل المشكلات التي تثيرها الشركات متعدية الجنسيات (TNCs).
وفى إطلالة تاريخية على مسار العولمة المالية يقول د. رمزي زكى: "ربما يعتقد البعض أن العولمة المالية هي ظاهرة حديثة العهد نسبياً، لكننا في الحقيقة لو نظرنا إلى تاريخ الرأسمالية فسوف نلحظ أن تلك العولمة، منظوراً إليها على أساس أن جوهرها هو تحركات رؤوس الأموال عبر الحدود والآليات والشروط التي تتحرك بها فيما بين الأسواق المالية المختلفة وما ينجم عن ذلك من آثار ونتائج، فسوف نلحظ أنها كانت ظاهر ملازمة لنشأة وتطور النظام الرأسمالي نفسه.)3(
وفى رأى د. صادق جلال العظم أنه: "منذ زمن غير قصير ونحن نتداول مفاهيم ومصطلحات وتصورات هامة - نتداولها علمياً وثقافياً وسياسياً وإعلامياً وحتى شارعياً: مثل الرأسمالية العالمية، الإقتصاد العالمي، الإمبريالية العالمية، السوق الدولية، النظام الإقتصادي العالمي".
ما الجديد في العولمة إذن، أن كان هناك من جديد. جميعنا يعرف، كذلك، أنه من آدم سميث إلى بول سويزى وسمير أمين مروراً بريكاردو وماركس وماكس فيبر ولينين وروزا لوكسمبرج وأندر جينتر فرانك وفوكوياما وهانتيجون: هناك إجماع على أن نمط الإنتاج الرأسمالي نمط عالمي ودولي وتوسعي بطبيعته ومنذ نشأته، ما معنى العولمة إذن؟ ما معنى القول أن النظام الرأسمالي الموصوف بالعالمي أصلاً وتعريفاً، من جانب أصحابه، كما من جانب أعدائه ونقاده قد تعولم أو هو قيد العولمةالآن،هل العولمة هي مجرد المزيد من الإمتداد الأفقي لنمط الإنتاج الرأسمالي حيث يلحق بعض الأصقاع والمجتمعات والثقافات الإضافية التي فلتت منه سابقاً بحلقه من حلقات أطرافه. )4(
وفى إجابة على ما طرحه د. صادق جلال العظم يتحدث د. سمير أمين في كتابه "إمبراطورية الفوضى" عن العولمة الجديدة التي بدأت منذ خمسة قرون مع غزو أمريكا.. لكنها أطلت من جديد في السنوات المنصرمة وتجلت كظاهرة في كثافة المبادلات التجارية والمواصلات المتنوعة والقدرة الشاملة لوسائل التدمير، وينظر إليها اليوم بوصفها تبعية متبادلة تخضع المجتمعات للتوسع العالمي للرأسمالية، ويجب ألا ننسى أن الرأسمالية كانت دائماً منذ إكتشاف أمريكا، نظاماً عالمياً. )5(
وفى نفس السياق يورد د. محمود عبد الفضيل رأى العلماء والباحثين الغربيين من أن عمليات العولمة، ليست جديدة، وأن هناك موجة عولمة بدأت في نهاية القرن الماضي، وتحديداً في عام 1870م، وإنكسرت هذه الموجة بسبب تناقضات العولمة بحلول الكساد الكبير عام 1929م، وبعد الإنكسار لموجة العولمة التاريخية الأولى بسبب الكساد الكبير، توقفت عمليات العولمة خلال الثلاثينيات، وبعد الحرب العالمية الثانية، إنغمس الغرب في عملية إعادة البناء خلال الخمسينيات والستينيات، ثم بدأت الموجة الحديثة للعولمة تؤازرها التطورات التكنولوجية منذ نهاية السبعينيات.)6(
وفى هذا السياق فإن رولند روبرتسن يرى أن العولمة (ومرادفها التدويل) أصبحت في النصف الثاني من الثمانينيات مصطلحاً شائعاً في الدوائر الثقافية والتجارية والإعلامية وغيرها في عملية تكتسب عدداً من المعاني وبدرجات متفاوتة من الدقة، وإن كان يحدد أن نمط العولمة قد رسخ في الفترة من (1880 - 1925) والتي إستمرت من سبعينيات القرن الثامن عشر وحتى أواسط عشرينيات القرن العشرين وتميزت بظهور مفاهيم عالمية عن "الصورة المثلى" لمجتمع دولي "مقبول" وطرح أفكار عن الهويتين القومية والفردية، وضم بعض المجتمعات غير الأوروبية إلى "المجتمع الدولي" وظهور الصيغة الدولية ومحاولة تطبيق أفكار عن الإنسانية، وزيادة هائلة في عدد أنماط الإتصال العالمي وسرعتها، ونمو صور التنافس العالمي - كالألعاب الأوليمبية وجائزة نوبل وتطبيق التوقيت العالمي والإنتشار شبه العالمي للتقويم الجريجورى والحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم. )7(
وفى إضاءة تاريخية للمصطلح يرى د. محمد حافظ دياب أن مقاربة العولمة وتأسيس النظر بمحتواها، لا يكتمل من دون تحليل الصيرورة التاريخية التي تكمن ورائها، وتبيان مختلف المتغيرات المساهمة في تعيينها، ذلك أن المفهوم لا يمكنه أن يتطور كمعطى بدهي، إذ هو بالضرورة معتمد على تنظير العمليات التاريخية المتلبسة له، والملاحظ في هذا الصدد تراوح الدراسات حول نشأة العولمة، ما بين إرجاعها إلى تكوين الإمبراطوريات التاريخية، أو الإنتصار العالمي لأحد أشكال الدين، أو تبلور الروح العالمية، أو إستسلام النزعة القومية لهدف التجارة الحرة، أو الإستعمار، أو إنتصار البروليتاريا العالمية، أو ظهور الشركات متعدية الجنسية، أو نشوء النظام الإعلامي الكوني، والإختلاف من ثم وارد، حتى من يربط منها العولمة بالتاريخ الحديث: فهي عند روبرتسن بدأت في الحدوث منذ ما يربو على مائة سنة وإرتبطت إرتباطا وثيقاً بالحداثة والتحديث وما بعد الحداثة، فيما هي لدى جيدنز، تتصل بتطور الدولة الحديثة الذي كانت تحدده معايير متزايدة الكونية فيما يتعلق بسيادتها، وتبللورت في فترة عقد المعاهدات عقب الحرب العالمية الأولى والتي كانت بالفعل النقطة الأساس التي أصبح عندها نظام الدولة الوطنية المراقب مراقبة إنعكاسية موجودا على المستوى الكوني. )8(
ورغم ذلك فإن العولمة الراهنة تبدو مختلفة عن أشكالها الأولية، فإذا كانت العولمة تعد رديفاً لتنامي الرأسمالية عبر القرون الأربعة الأخيرة، فما الذي أستجد راهناً ليستدعى حضورها الطاغي؟.
هناك وقائع أربع أساسية أدت لحضور العولمة الطاغي في الوقت الراهن:
أولها: تضخم الشركات المتعدية الجنسية والتي يضعها تومبسون في موقع القلب من العولمة الإقتصادية ويصفها بأنها المثال الحي لرأس المال العالمي.
وثانيها: عجز دولة الرفاة WelfaRE State التي وضع أسسها عالم الإقتصاد البريطاني اللورد جون منيارد كينز، حين نادى بإنتهاج سياسة تقوم على تدخل الدولة لحماية الإستقرار الإقتصادي في محاولة للخروج من الأزمة الرأسمالية المشهورة في نهاية الثلاثينيات..
وثالثها: الطفرة الراهنة للتقدم التكنولوجي في مجالات الإتصال والمعلومات.
أما رابع الوقائع: التي أسهمت في الحضور الطاغي للعولمة راهناً فيبدو في قيامها على إطار مؤسسي تملك الولايات المتحدة الأمريكية، بإعتبارها وريثة المركزية الأوروبية، السيطرة المباشرة عليه، مكون من نظام إستثماري عالمي بإدارة البنك الدولي للإنشاء والتعمير (IBRD) ونظام نقدي بإدارة صندوق النقد الدولى (IMF).
وكلا النظامين يقومان بدوريهما فى ضبط العلاقات الإقتصادية العالمية، ويضاف إليهما نظام تجارى عالمي بإدارة منظمة التجارة العالمية (WTO) التي خلفت إتفاقية الجات منذ بداية عام 1995 والتي تحتوى على قواعد ملزمة وآليات تحكم إجبارية، وتعد نفسها لتصبح الحكم الفيصل في ميادين التنافس والوصول إلى الأسواق العامة والقوانين المتعلقة بالإستثمار والعمالة. )9(
من مجمل ما سبق تناوله من آراء، نخلص إلى نتيجة مفادها أن المصطلح محل البحث Globalization على مستوى الإستخدام المباشر له لم يظهر في الكتابات العلمية أو تم تناوله في الكتابات الفكرية أو الأدوات الإعلامية إلا في نهاية عقد الثمانينات من القرن العشرين، ولكن على مستوى دراسة المصطلح من حيث دلالته لا لفظه، فإن هناك ما يشبه الإجماع سواء في الكتابات الغربية أو العربية على أن ظاهرة العولمة تعد رديفاً لتنامي الرأسمالية عبر القرون الأربعة الأخيرة وإن كانت العولمة الراهنة تبدو مختلفة عن أشكالها الأولية بما تتميز به من أدوات وآليات وتفاعلات داخلية.
المبحث الثاني
مفهوم العولمة
لم يلتق الكتاب العرب على إسم واحد لظاهرة كثر حديثهم عنها، فقد أسماها البعض "العولمة" وقال البعض الآخر "الكونية" والبعض الثالث "الكوكبة".
ويبدأ د. إسماعيل صبري عبد الله بالترجمة الصحيحة للإسم الإنجليزي للظاهرة وهو Globalization "الكوكبة" وهو مشتق من globe بمعنى الكرة - المقصود به هنا الكرة الأرضية - الكوكب الذي نعيش على سطحه، ومقابل "العالم" هو "World" ومقابل "الكون" هو "Universe" وكلمة العالم تعنى البشرية، والنسبة إليها توحي بمشاركة الناس جميعاً في إنتشار الظاهرة محل الدراسة، كما أن هذا الإسم ليس من مفردات فعل في اللغة العربية، وقد وجدت في المعاجم فعل "كوكب" بمعنى جمع أحجاراً ووضع بعضها البعض في غير شكل محدد، وهو كما يقال "كوم" في تجميع التراب، ورأيت الإحتذاء بسلفنا القريب حين نقلوا فعل "ثقّف" من صقل السيف إلى ثقل العقل وأدخلوا في اللغة العربية "الثقافة" بالمعنى المتداول عندنا حالياً. )10(
وأول من ترجم مصطلح ال Globalization بمعنى "العولمة" هو د. سمير أمين، على حين تمسك د. إسماعيل صبري عبد الله بمصطلح "الكونية" أو "الكوكبية" وقد ترجم د. فؤاد مرسى الكلمة الأجنبية Global بالكونية وكذلك فعل محمود أمين العالم في عنوان لكتاب له وإن إستخدم في داخل الكتاب مصطلح "العولمة". )11(
ويناقش محمود أمين العالم أطروحة د. إسماعيل صبري عبد الله بقوله "إذا كانت الكوكبية أدق من حيث الترجمة العربية الحرفية للكلمة الأجنبية، إلا أنها لا تتسع للمفهوم الذي يحدده كوكب الكرة الأرضية فقط، بل يشمل ما فوق الكرة الأرضية الذي أصبح اليوم ساحة من ساحات القواعد الإتصالية والإعلامية والعسكرية وغداً سيكون ساحة إقتصادية للتنافس والإستغلال. )12(
وحسماً لأمر الإختلاف في دلالة اللفظ فإننا نجد أن ما طرحه د. سمير أمين وأكده محمود أمين العالم هو الأقرب إلى الفهم العميق لدلالة اللفظ.
هذا من ناحية ترجمة المصطلح.
أما عن مفهوم المصطلح، فتجدر الإشارة إلى أن مصطلح العولمة قد شاع بسرعة تفوق شروط تشكيل المعنى وتأسيس المرجعية التي يحيل إليها في الواقع فهو لفظ مشحون بعديد من المعاني لأنه مازال يبحث عن مدلول مادي واضح 0
فهو في رأى، د. حاتم بن عثمان،: "يعنى الآن كل شيئ ولا يعنى شيئاً بعينه" )13( ويلاحظ د. طاهر لبيب، أن إنتشار مصطلح العولمة إنتشار مفاجئ متسيب، لا تتضح ملامحه جعل منه في النص العربي "كارثة" عامة لا تخلو من إمتداد غيبي، لذلك فالحديث عن العولمة هو حديث عن الموت والفناء والإنتحار وعن القدر والحتمي والمحتوم وما شابه ذلك مما تعج به الكتابات العربية اليوم. )14(
ومن زاوية أخرى يرى د. طارق حجى أن العولمة ليست "فكرة" مطروحة للنقاش والجدل وإنما هي "أمر واقع" تحاول الجهات التي تتبوأ قيادة العالم الغربي، والتي تتبوأ في نفس الوقت مقعد السائق على مستوى مسيرة البشرية العالمية، و"كأمر واقع" تعمل هذه الجهات (وأولها الولايات المتحدة الأمريكية) على فرضه وتعميمه بجوانبه الإقتصادية وبجوانبه الأخرى الحديثة ومن أهمها الشق الثقافي والفكري، وهكذا تكون العولمة أبعد ما تكون عن فكرة مطروحة للنقاش، وإنما أشبه ما تكون بظاهرة طبيعية كالزلازل أو البراكين التي من العبث أن نناقش هل هي أشياء جيدة أم سيئة، والصواب أن نعمل على التعامل معها أفضل وأنجح تعامل، لأن البشر يختلفون في مواجهة وكيفية التعامل مع الواقع، ولكن المصيبة تكون كاملة وشاملة عندما يحاولون مناقشة أيقبلون أم يرفضون الزلازل والأعاصير والبراكين، لأنهم من جهة لا يملكون معطيات تغيير الواقع، كما أن تركيزهم على محاولة التغيير المستحيلة تجعلهم لا يعملون في المجال الوحيد المتاحوهو التعامل الذكي والأمثل والأكثر مردودية وفائدة مع الواقع ومحاولة خلق هامش جديد لقيمتهم المضافة في ظل الواقع والذي لم ولن يسألهم أحد "ممن يملكون المقادير" عن رأيهم فيه. )15(
ويدعم د. طارق حجى وجهة نظره برأي د. على الدين هلال والذي يعتبره من أبلغ ما كتب في هذا المجال عندما يقول: أن العولمة تشبه قطاراً تحرك بالفعل بينما لا يزال البعض يتساءل، هل وجود وحركة هذا القطار شرعية أم لا؟ بينما لا يوجد من سألهم عن شرعية وجود وحركة القطار، كما أن سؤالهم (وكل قدراتهم) لا تملك أن تمنع وجود وحركة القطار بأي شكل من الأشكال. )16(
ومن زاوية ثالثة قام بول هيرست وجراهام تومبسون "بمساءلة العولمة" في دراسة هامة تحمل نفس العنوان توصلا فيها إلى أن "العولمة" أسطورة لعالم بلا أوهام تروجها الرأسمالية العالمية للمبالغة في درجة عجزنا في وجه القوى الإقتصادية على رغم أن الأسواق الكوكبية مسيطرة، وهى لا تواجه أي تهديد من أي مشروع سياسي عكس قابل للبقاء، لان من المعتقد أن الإشتراكية الديمقراطية الغربية وإشتراكية الكتلة السوفيتية قد إنتهتا معاً، وقد كان التفسير العقلاني القديم للأساطير البدائية أنها كانت طريقة لإخفاء عجز الإنسانية في مواجهة قوى الطبيعة وللتعويض عن هذا العجز، وفى حالتنا نحن أمام أسطورة تبالغ في درجة عجزنا في وجه القوى الإقتصادية المعاصرة. )17(
ومن زاوية رابعة، يصل الأمر في مدار بحث ظاهرة العولمة إلى الحد الذي يحذر فيه واحد من أهم علماء السياسة في بريطانيا، وهو جون جراى،بروفيسور السياسة في جامعة أكسفورد ومستشار حكومة مارجريت تاتشر، من أوهام رأسمالية العولمة والسوق الحرة التي ترفع علمها الولايات المتحدة وحواريوها في بريطانيا وفى أنحاء العالم، وأنه - أن ترك هذا النظام يأخذ مداه ويحكم سيطرته - سيجلب حروباً وصرا عات وفقراً، فضلاً عن أن - هذه الأوهام - لن تجعل من القيم الغربية قيماً عالمية، وإنما هي تصنع عالماً تعددياً لا رجعة فيه، كما أن الترابط المتزايد بين إقتصاديات العالم لا يعنى نمو حضارة إقتصادية موحدة، ولكنه يعنى ضرورة إيجاد وسيلة للتعايش بين ثقافات إقتصادية ستظل دائماً مختلفة. )18(
ومن زاوية خامسة، فإننا لا نستطيع أن نغفل أنه قد ساد خلال السنوات الأخيرة، خطاب تبشيري يروج للعولمة، ليس على طريقة د. طارق حجى على أي حال، ومن أبرز رموزه الكاتب الصحفي الأمريكي "توماس فريدمان" ويعتبر كتاب "السيارة ليكساس وشجرة الزيتون" الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1999، نموذجاً فريداً لهذا النهج، إذ يسعى الكتاب إلى تسويق وترويج للعولمة، بإعتبارها طوق النجاة وطريق المستقبل لكل بلدان العالم على إختلاف مستويات تطورها، وهذا الخطاب التبشيري يروج للعولمة ومزاياها وقدرتها على تعميم الرخاء والمساواة بين البشر والإستفادة من أحدث إنجازات العلم والتكنولوجيا من خلال ضغط المسافات و"تقريب البعيد" بإختصار إنه يروج "للعولمة السعيدة" بلا آلام ولا دموع. )19(
ونظراً لتعدد زوايا النظر إلى مصطلح العولمة ومن ثم تعدد المعنى الذي يميل إليه، فإننا سنعتمد علىتعريفاً إجرائياً للمصطلح صادر عن وثيقة للجنة دولية مستقلة والتي شكلتها الأمم المتحدة لدراسة "حكم الكوكب" فى تقريرها الصادر فى 1995 بعنوان "مجاورتنا الكوكبية" وهو بالنص: "التداخل الواضح لأمور الإقتصاد والإجتماع والسياسة والثقافة والسلوك دون إعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة أو إنتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية")20(.
وأهم ما يميز هذا التعريف، أننا بصدد ظاهرة جديدة لم تكن معروفة قبل النصف الثاني من القرن العشرين وبالتالي لم تكن محل دراسة سابقة في أي من العلوم الإجتماعية، فكل تلك العلوم مهما بلغت من التعقيد أو التبسيط وما حفلت به من مناهج ونظريات كانت تخاطب دولة ذات حدود معروفة أو مجتمعاً معيناً، ويسمى التحليل نظرياً إذا درس مجتمعاً (دولة) مفترضاً ومعبراً عن كيانه في صورة مجردة، أما إذا درس مجتمعاً قائماً بذاته فهو إقتصاد تطبيقي أو إجتماعي "إمبريقي" أما ما كان أبعد من هذه الدولة القومية فهو علاقات بين الدول، وهذا واضح في القانون الدولي وفى باب العلاقات الإقتصادية الدولية الملحق بالنظرية الإقتصادية على سبيل المثال، والتداخل الواضح المشار إليه في التعريف لم يكن حتى الآن محل دراسة قائمة بذاتها تضيف نوعاً جديداً من فروع العلم الاجتماعي، حتى الفلاسفة ومؤلفي كتب "اليوتوبيا" لم ينظروا بعناية ولا حلموا بشمول الأوضاع الحالية والظاهرة الجديدة التي عرفناها للتو، فجوهر الكوكبة - "العولمة" - هو ما يتجاوز إعتبارات السيادة الوطنية ويخلق نوعاً من القوة الإقتصادية تؤثر في جوانب كوكبنا دون أن تقابلها سلطة سياسية على المستوى نفسه فوق القومي )supernational(. )21(
فبالرغم من تعدد زوايا النظر لظاهرة العولمة من كونها "كارثة" عامة لا تخلو من إمتداد غيبي، و"آخر واقع" كالزلازل والبراكين و"أسطورة" لعالم بلا أوهام، و"طوق نجاة" للبشرية، بالرغم من ذلك فإن جميع هذه الزوايا للرؤية لا تختلف على التعريف الإجرائي الذي إعتمدناه مؤقتاً مفهوماً للعولمة وسنتناول في المبحث القادم تحليل مضمون هذا المصطلح وفقاً للتعريف المؤقت له ومن جميع زوايا النظر إليه وذلك للوصول إلى تعريف واضح له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق