الأحد، 3 مايو 2009


اراء وافكار: العولمة والاستراتيجية العربية


شاكر النابلسي كاتب اردني - امريكايُعقد في البحرين، في مطلع كانون الأول القادم 2007 مؤتمر فكري،تحت عنوان مهم وحيوي ومُلح، وهو: "الاستراتيجية العربية لعصر العولمة"، في ظرف تاريخي عربي دقيق، وفي وسط فوضى سياسية وثقافية تجتاح العالم العربي، اختلطت فيها المفاهيم العلمية والسياسية والاقتصادية الدقيقة، وخاض في نقاش هذه المفاهيم من يعلم ومن لا يعلم، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأدلى الجميع بدلوهم -كالعادة - في آبار لا يعرفون قرارها. وأصبح الحديث عن العولمة في العـالم العربي في نهايـة القرن العشرين أشبه ما يكون بالفزع الكبير الشامل. وكأنها قنبلة عظيمة الأثر أُلقيت في وسط العالم العربي، فانفجرت، وتناثرت شظاياها في كل مكـان من العـالم العربي، حتى الأمكنـة التي لا تزال تعيش أنظمـة القرون الوسطى سياسيـاً واجتماعيـاً وثقافياً واقتصاديـاً. "وما بين التطلع والتوجس، الترحيب والتحذير، الاستبشار والتخوف، التمجيد والاتهام، تعامل معظم ما كُتب وجُلَّ ما قيل مع العولمة، وكأنها مفاجأة سقطت على التاريخ من خارجه، كأنها كانت انقضاضاً على ما سبقها لا حصيلة له" كما قال مصطفى الحسيني في كتابه (عولمة منذ الأزل). ولم يُقرَّ العربُ حتى الآن أن العولمة يمكن لها أن تكون وسيلة فاعلة إلى إزالة الحدود والقيود والسدود من المآزق الرئيسة المُسببة للأزمات العربية المستعصية الحالية. وأن العولمة وإن بدأت من بوابة الاقتصاد، ودخلت إلى العالم العربي – بخفر وحذر حتى الآن - من هذا الباب الواسع، وعُبِّر عنها عالمياً بالشركات العابرة للقارات، وأن السلعة الواحدة أصبحت اليوم - مثالاً لا حصراً - فكرة أمريكية، وخامات أوروبية، وصناعة صينية، أو عكس ذلك، وتباع في كافة أسواق العالم. وعلى أية حال لم تعُد المنتجات أياً كانت ذات هوية صناعية واحدة. فلم تعُدْ هناك سلعٌ كثيرة، ذات جنسية أو هوية خاصة. كما أصبحت الشركات الكبيرة العابرة للقارات، ذات رأسمال مختلط، وتؤدي إلى مصالح مشتركة. وقد سبق أن قلت في مقالات سابقة وهنا على صفحات "الوطن" بأن عرب قريش، هُم من بدأ العولمة الاقتصادية – في مفهومها المحدود والبدائي قبل أكثر من 15 قرناً - عندما وضعوا نظام "الإيلاف" الخاص بالقوافل التجارية المُنطلقة صيفاً وشتاءً من مكة إلى الشام شمالاً والى اليمن جنوباً، وأشركوا برأسمالها وحماية خطوط سيرها، معظم القبائل العربية ذات العلاقة. فيما أطلق الشاعر العربي القديم مطرود الخزاعي على العولمة/الإيلاف "الاختلاط"، وقال فيه يصفُّ قريشاً التي كانت تتزعم عولمة القرن الخامس الميلادي:الآخـذون العهـدَ من آفاقهــاوالراحـلون لرحلـــة الإيلافِوالخالطــون غنيهم بفقيرهـم حتى يكـونَ فقيرهـم كالكافيوبتفصيل أكثر فالعولمة الحديثة هي "الإيلاف"" العربي القُرشي القديم الذي أنشأه هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، في القرن الخامس الميلادي. وهو الذي كان يُعرف عند العرب تجارياً بـ "رحلة الشتاء والصيف". وهي العولمة القديمة (الإيلاف) التي شقَّت طريق التجارة الدولية بين الحجاز واليمن والهند جنوباً، وبين الشام والعراق ومصر شمالاً. ومن هنا، فالعرب هم أول من شقَّ طريق العولمة في التاريخ التجاري، وعقدوا المعاهدات السياسية والتجارية مع الروم، والبيزنطيين، والأحباش، والمصريين، وغيرهم، لحماية طرق التجارة، وفتح الأسواق، وإزالة الحدود والسدود من أمام حرية التجارة، وتقريب المسافات بين الأقطار والشعوب، فيما يُعرف اليوم بالعولمة. وهو ما عبّر عنه فيلسوف البيان والبلاغة العربية، عبد القاهر الجرجاني، في كتابه "دلائل الإعجاز" بقوله: "تواصل الأضداد يُقرِّب المسافات". وهذا هو المعنى البسيط والسريع للعولمة الاقتصادية التي تدور الآن في العالم، والتي تصدى لها معظم المثقفين العرب كعداوة قادمة من الغرب للقضاء على الهوية العربية، والبُعد القومي للعرب، وكأن العرب لم يتجزأوا بعد إلى طوائف ودويلات وأقاليم حسب مذاهبهم، وطوائفهم، برغم وحدة تاريخهم ولغتهم. وكأن العرب موحدون، تجمعهم وحدة قومية متينة. فحقبة الدولة القومية السيدة، والهويات المحافظة ظاهرياً على نقاوتها الآفلة، تمرُّ اليوم بفترة انتقال عاصفة عنوانها الكبير العولمة، بما هي مشروع عالمي لتوحيد العالم في السوق، وتوحيد الهويات في هوية عالمية متجانسة أكثر فأكثر. فاليوم تطرح الإنسانية من جديد سؤال الهوية، وهي تقف في برزخ عصر الهويات والدول القومية، أو ما دون القومية المتناحرة وعصر القرية الكونية التي قد تُنتج في السيناريو المتفائل وعياً كونياً مطابقاً يتجاوز رواسب الإثنية المركزية ومنتوجها الفرعي، وهي النرجسيات القومية والعصبيات الهوياتية، كما يقول المفكر التونسي العفيف الأخضر.الخطر الداهم والوباء القادملعل الهدف من المؤتمر المذكور، هو تبيان فيما إذا كانت العولمة خطراً داهماً ووباءً قادماً، أم أنها بالنسبة للعرب وعد صادق، وخير دافق. وسواء كانت العولمة مظهراً ايجابياً أو سلبياً للعرب، فإنها تسير نحونا بسرعة هائلة. فخلال السنوات الثلاث الماضية، لم تعُد العولمة في العالم العربي مقتصرة على الجانب الاقتصادي، بقدر ما شملت الجانب القضائي (المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري وتعيين لجنة اختيار القضاة من جنسيات مختلفة منهم مصري وآخر نرويجي) والعلمي والتعليمي والإعلامي والمعلوماتي بفضل تقدم الانترنت، وزيادة عدد المشتركين فيه في العالم العربي، وبفضل المزيد من الطلبة العرب المبتعثين للدراسة في الغرب، وبفضل زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية في العالم العربي وخاصة في دول الخليج، وبفضل تداخل المصالح السياسية والاقتصادية في المنطقة. فإذا كانت العولمة خطراً داهماً ووباءً قادماً، فهي بالنسبة للعرب كما صوّرها ونقلها إليهم بعض مفكريهم الذي قالوا فيها ما قاله مالكٌ في الخمر. ومن أقوالهم فيها:- العولمة، هي وحدة العالم الشرير، كما يقول المفكر المصري الماركسي محمود أمين العالم.- العولمة، هي الهيمنة التي تدمرنا، كما يقول عبد الكريم عمرو.- العولمة، هي حضارة المكادو كوكا (مطاعم مكادونالد للوجبات السريعة، وشراب الكوكاكولا الأمريكي) كما قال حسن نصر.وإذا كانت العولمة وعداً صادقاً وخيراً دافقاً، كما صورها ونقلها إليهم بعض المفكرين الذين قالوا فيها:- العولمـة في الحقيقة نظام عالمي يأتي ليجسّد حصيلة كل ما حفل به التاريخ الحديث للبشريـة، لتأسيس تاريخ عولمي جديد للإنسان، كما قال سيّار الجميل المؤرخ العراقي المعاصر.- العولمة نتيجة طبيعية لمسار تحولي وتراكمي للحداثة. وثمرة عليا لمنجزات الحداثة، برزت بعد أن أخفقت الحداثة في تحقيق رهاناتها الكبرى على مستوى العالم، كما قال وجيه قانصوه الباحث اللبناني.- العولمة نظام فكري واقتصادي وسياسي، لا بُدَّ من فهمه وتفكيكه والتعامل معه بما يلزم من أدوات المعرفة في مستويات الاقتصاد والسياسة. أنه نظام العصر الآتي، ولكن القبول الكلي الذي تمارسه الأنظمة في المستوى الاقتصادي، والقبول الحذر الذي تمارسه في المستوى السياسي، لا بُدَّ من أن يستتبعه قبول للثقافي، لأن العولمة نظام غير قابل للانفصام. وهو نظام ليس لمجرد الرفض والقبول، كما قالت الأكاديمية والباحثة اللبنانية فهمية شرف الدين.ونكتفي بهذا القدر من الشهادات التي ناصبت العداء للعولمة من جهة، والتي دعت إلى التأنّي، وفهم، وتحليل العولمة. ومن الواضح من خلال هذه الشهادات الرافضة والمرحبة بالعولمة، أن الذين رفضوا العولمة رفضوها بطريقة سطحية فجّة، ولأنها قادمة من الغرب ومن أمريكا على وجه الخصوص، ولم يرفضوها بطريقة علمية موضوعية كما فعل الجانب الآخر. مما يدلُّ على أن من هاجم العولمة وبالتالي رفضها، لم يكن عالماً بها ودارساً لها، كما فعلت مجموعة من المفكرين والباحثين العرب.العولمة بين الجد والهزلأصبحت العولمة هذه الأيام "موضة ثقافية"، ووسيلـة للنجومية الثقافية والفكرية.فكل مثقف أو مفكر يريد أن يصبح نجم الصحافـة السائر وعَلَم التلفزيون الدائر، ما عليه إلا أن يتصدى للعولمة مؤيداً أو رافضاً، مادحاً أو شاتماً، شاكراً أو مستغيثاً، كما كان عليه الحال قبل سنوات بالنسبة للعَلْمانية، وكما كان عليه الحال قبل ذلك بالنسبة للحداثة. وسوف تزيد شهرته وتلمع نجوميته أكثر فيما لو عرّج على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وجلدها شاتماً.وإلى هذه اللحظة، لم يأخذ الشارع العربي العولمة التي يتحدث عنها المثقفون على محمل الجد، كما لم يفهم أحد في الشارع العربي معنى العولمة التي يتحدث عنها المثقفون، ويخيفون المواطن العربي منها، وينصبون المتاريس وخطوط الدفاع الوهمية في وجهها. ونقول خطوط دفاع وهمية لأن العولمة الكاملة الزاحفة المهدِدة التي يتحدث عنها المثقفون العرب بفزع شديد، ستصل العالم العربي في مرحلة متأخرة جداً، فيما لو علمنا أن العولمة ليست عالمية في حقيقتها كما يؤكد بعض الباحثين. وأن النشاط التجاري المتعدد الجنسيات ما زال محصوراً في عدة دول كبرى فقط وفي الدول الصناعية. وهناك بعض النشاطات التجارية المبعثرة في دول العالم الثالث. وأن أغلب سكان الكرة الأرضية ما زالوا خارج نظام العولمة، وهم الذين بلا عمل أو رزق، وينمون كل يوم بسرعة أكبر من سرعة نمو الجيش العولمي. يقول المفكر التونسي الحبيب الجنحاني في (العولمة في الفكر العربي المعاصر، ص2): "أن المثقفين العرب يعيدون مرة أخرى إنتاج القضايا المطروحة في المجتمع الغربي. فقد فعلوا ذلك مع الحداثة، ومع الديمقراطية، ومع مختلف مدارس النقد الحديثة في الفنون والآداب. ففئة من المثقفين العرب أعادت الإنتاج مع محاولة النقد والتجديد، وفئات أخرى اجترت اجتراراً". فانصرف المواطن العربي عن كلام المثقفين حول العولمة، وراح يمارس نواحي في العولمة تخدم حياته وتيسِّرها. فالمواطن العربي يمارس في حياته اليومية العولمة الاقتصاديـة من خلال البنك الذي يتعامل معها، ويمارس في حياتـه اليومية العولمة الثقافية من خلال قناة التلفزيون الفضائيــة التي يشاهدها كل مساء وشبكة الإنترنت التي يلجأ إليها لقراءة الصحف العربية الممنوعة الكثيرة، وتسيير أعماله اليومية. وفي الواقع فإن أجزاءً كثيرة من العالم العربي بدأت العولمـة في ناحية من النواحي. وبدت "الدولة العربية في أحوال كثيرة نصف مُعولمة" كما يعترف المفكر المصري محمود عبد الفضيل ومجموعة من المفكرين معه في كتاب (العرب والعولمة، ص205). وبدا العرب متعولمين اقتصادياً وثقافياً وإعلامياً وحتى اجتماعياً إلى حد ما، ولم يبقَ غير إكمـال الطريق، كما لم يبق غير العولمة السياسية وهي القادمة. فقد ظلت "الجماهير أكثر حكمة وتعقلاً في فهم الأحداث والتعامل مع الوقائع من النُخب التي كانت تقرأ العولمة قراءة خلقية مثالية أو قراءة أيديولوجية نضالية رجعية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، ومن خلال الحكم على ظاهرة العولمة بما قبلها، كما يؤكد المفكر اللبناني علي حرب في كتابه (حديث النهايات، ص22، 43، 46). وظلت العولمة في أذهان المثقفين مفهوماً متداولاً محصوراً خلف جـدران المؤتمرات والنـدوات الفكريـة المتخصصـة. وظلت مفهوماً ذهنياً تجريديـاً في نظر كثير من المفكـرين العرب. ثم ما قيمة وعي المثقفين لأسرار العلاقة الطويلة بين العرب والغرب إذ لم يبلغ هذا الوعي الفئات الاجتماعية والسياسية المعنية صاحبة المصلحة في التغيير؟". ولعل الخروج من هذا المأزق – مأزق الهوة بين الواقـع المُعاش والفكر الهائم - هو "إقامة علاقات نقدية مع الذات والأفكار لإحداث قفزة هائلة ننتقل بها من لغة الشُعَّار وعقلية الطوبى، ومنطق الاستلاب إلى لغة. ولم نكن نملك نحوها إلا قذفها بشتى التهم، وبمختلف أساليب السباب. ولم تتم مناقشتها عقلياً من خلال الحقائق التاريخية والأرقام الاقتصادية. الفهم، وعقلية الخلق، ومنطق الحدث والتكوين على النحو الذي يتيح لنا المساهمة في تغيير الواقع وصناعة المشهد العالمي"، كما يقول علي حرب في كتابه المذكور.وكما قابلنا الحداثـة في مطلع الخمسينات من القرن العشرين بالفزع منها، وكما قابلنا العَلْمانية في السبعينات بالخوف منها والسخط عليها، وذهبنا بها مذاهـب شتى رمت دُعاتها بالكفر والإلحاد والشرك برب العباد، فقد قابلنا العولمة، أو ما يُعرف بالعصر الرقمي Digital Age في نهايات القرن العشرين، أو ما يُطلق عليه "عصر تكنولوجيا المتعة" بالخوف والفزع منها، والسخط عليها، ورميناهــا بأنها رجس من عمل الشيطان أو الشرير الأكبر (أمريكا) كما يصفها جون غراي في كتابه "الفجر الزائف".وكـان هذا الفزع وهذا الخـوف من كل مفهـوم جديد يظهر في العالم مبعثه ازدواجية شخصية الإنسان العربي بوضعه الحالي وبثقافتـه المحـدودة، وانغلاقـه وقطيعتـه مع تراثه ومع العالم أيضاً، بحيث أصبح يخشى من كـل جديد في الفكر، ويفزع منه، وينأى عنه.وتتجلّى ازدواجية الشخصية العربية هذه في ازدواجية التعامل والسلوك الاجتماعي، وازدواجية لغة التعامل الاجتماعي، وازدواجية النـزعة الانتقادية، والازدواجية الحضاريـة، وأخيراً في ازدواجية موقفه من الغرب. فهو يُقبل على منتجاته، ومعاهده، وكلياته، وأفلامه، وكتبه، وموسيقاه، وطعامـه، وملبسه، ووسائل مواصلاته، ويتمتع في حياته بإنجازات الغرب التكنولوجيـة والعلميـة، ولكنه في الوقت نفسه يقف موقف المهاجِم والمداهِـم لكل فكر جديد، وخطوة جديدة من شأنها أن تُيسّر الحياة، وتفتح لها آفاقاً جديدة.وإذا كانت ازدواجية الشخصيـة العربية سبباً من أسباب فزع العرب من العولمة، فإن المثقفين العرب كانوا سبباً آخر لهذا الفزع. فقد أفزع المثقفـون العرب الإنسان العربي – نتيجة لأميته الهجائية والثقافية – من العولمـة، في الوقت الذي كان يمارس بعض آلياتها من حيث لا يدري، من دون خوف أو جزع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق