السبت، 16 مايو 2009

العولمة(1)
ماذا تعني هذه الكلمة؟ وما هي أهداف العولمة، وما هو الموقف الذي ينبغي للدول العربية والإسلامية اتخاذه منها؟
العولمةُ تعني ببساطة تعميمَ النمطِ الواحد الثقافي والاقتصادي (ثم السياسي) حكماً، ومحاولة بسطه على كل دول العالم.
وهي في مجمل هذا المعنى ليست حديثة عهد بل تعود إلى زمن قديم حيث كانت القوى الناشئة تطمح إلى التمدد والتوسع ما أسعفتها أو أغرتها بذلك قوتُها ، فقد تمدد اليونانيون بقيادة الاسكندر الكبير يصحبه فلاسفة وحكماء ، إلى أقاصي المعمورة التي كانت معروفة في زمانه ، وأنشأ ، وهو يفتح المدن ، مؤسساتٍ مختلفةٍ ومكاتبَ عامةٍ ، منها مكتبةُ الاسكندرية الشهيرة . وكذلك فعل الرومان ، فعبروا البحار واستعمروا الدول التي وراءها ونقلوا بعض خصائص حضارتهم إليها ومنها فنهم المعماري الذي لا زالت بعض آثاره قائمة إلى اليوم كقلعة بعلبك في لبنان . وتوسع العرب المسلمون شرقاً وغرباً وأنشأوا حضارة شامخة في ظل رسالة الإسلام لا زالت بعض معالمها ماثلة إلى اليوم في إسبانيا وغيرها تبهر السياح .
وباسم الخلافة بسط العثمانيون نفوذَهم على محيطٍ واسع من أقطار الأرض . وهذا ما حاولته فرنسا بقيادة جنرالها نابليون عبر سلسلة من المعارك الدامية الشهيرة أوصلته بعضُها إلى مصر حيث نقل إليها أول مطبعة ولبس مع أهلها العمة وحاول التأثير في مجتمعها ، وصولاً إلى النصف الأول من القرن الماضي حيث تقاسمت العالمَ قوى الاستعمارِ الغربي وأنشأت فوق دوله ، ومنها دول العالمِ العربي والإسلامي ممالكَ وامبراطوريات – إحداها لا تغيب عن أطرافها الشمس – وعملت جاهدةً ، إلى جانب استلاب خيراتها ، على غزوها عقيدياً وثقافياً واجتماعياً .
والعولمةُ الحديثة التي يبشر بها الغرب اليوم بقيادة الولايات المتحدة ، حتى قيل أن العولمة هي (الأمركة) ، بما توافر لها من تكنولوجيا مذهلة وفضائيات صيّرت العالم قرية واحدة هي – في الحقيقة – ليست سوى حالة متطورة لتلك العولمة الممتدة في التاريخ .
وهي ذات وجهين يكمل أحدهما الآخر : عولمة ثقافية ، وعولمة اقتصادية ينقلان – تبعاً – إلى كل بلد حلاّ فيه ، عولمةَ السياسة ..
والعولمة الثقافية تعني تصدير المفاهيم والأسس التي تبتني عليها حياة الأمم ، كالحرية ، والديمقراطية، والسلام ، والأمن ، والسلوك الاجتماعي ، إلى بقية بلدان العالم بالتفسير والرؤية والقناعة الغربية ، وهنا تكمن أولى مخاطرِ العولمةِ ومفاسدِها . فالأمم والشعوب قد تختلف ، وربما اختلافاً كبيراً ، في قناعاتها وتفسيرها لهذه المفاهيم وذلك تبعاً لاختلاف حضاراتها وثقافاتها التي تكونت عبر التاريخ من العقائد والتراث والبيئة والعادات والآداب الاجتماعية لكلٍّ منها .
فما تعتبره الثقافة الغربية من صميم الحرية الشخصية كحق المرأة في الإجهاض الذي أقرته الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة / تموز عام 1999 م.، تعتبره الشريعة الإسلامية وكذلك المسيحية جريمة وتجنياً لأنه يحرم الجنين هبةَ الحياة التي وهبها له الخالق ..
والقانون الغربي الذي يحرِّرُ الأبناءَ في الأسرة من مسائلةِ الآباء إلى حدِّ تخويلهم إيداعَ آبائهم السجن لمجرد تعنيفٍ أو لطمةٍ غاضبةٍ أقدم عليها الأب مثلاً ، ٍتعتبره الشريعة الإسلامية قانوناً عاقاً ومخلاً بالآداب .
وكعقوبة الإعدام التي تحضرها دول غربية مؤثرةً حياةَ الجاني ، وتقرُّها ، بشروطها الصارمة طبعاً ، الشريعةُ الإسلاميةُ مؤثرةً أمن المجتمع ، ناهيك عن ما يمس الأخلاق والقيم بشكل فاضح كإباحة العري على الشواطئ ، والترخيص لبيوت بيع الهوى ، وتشريع الشذوذ الجنسي ، واعتباره زواجاً يحترمه القانون بل وحتى المؤسسة الدينية في بعض البلدان الغربية كبريطانيا وألمانيا ، (ونسجل هنا باحترام إدانة البابا مثل هذا الزواج الذي يندى لمجرد ذكره الجبين) .
وعلى هذا فإن العولمة الثقافية الغربية تعني حكماً العمل على ضرب وإلغاء أو في – اقل تقدير تمييع – ثقافات الشعوب الأخرى ، وهو في واقعه نوع من أنواع العنف والتجديف ، والإرهاب الفكري .
وقد لقي من أجل ذلك ممانعة وانتقاداً شديداً حتى من بعض الدول الغربية نفسها كفرنسا : مرةً على لسان وزير ثقافتها في عهد الرئيس ميتران جاك لانغ . وأخيراً في مجلس الشيوخ الفرنسي على لسان وزير خارجيتها الحالي دومينيك دوفيلبان الذي قال : (يجب الأخذ بعين الاعتبار الإحساس بالهيمنة الثقافية التي يمارسها العالم الغربي من خلال نهضة العولمة. ألا يعطي الغرب بذلك الشعور بالرغبة في فرض نمط حياة واحد في كل مكان معرِّضاً بذلك الثقافاتِ والهويات للخطر) وصرح في كلامه أيضاً: (علينا أن نحرص، دون أن تتوارى الحداثة ، بألا نجعلها تبدو كمنافس للتقاليد والديانات) جريدة اللواء – 2/7/2003.
ومع قراءة متأملة للعولمة الثقافية نجد خطاً منها يعمل بشكل مباشر للترويج للعولمة الاقتصادية عبر تكوين وتنشيط الذهنية الاستهلاكية لدى مواطني مملكة العولمة وإقناعهم بوسائل الثقافة الحديثة على اختلافها ، منها ثقافة الفضائيات وجاذبية الدعاية للسلع والمنتجات بأن الحياة ليست سوى متع متواصلة: الأكثر سعادة فيها هو الأكثر قدرة على اغتنام الفرص والعبّ من ألوان اللذائذ الحسية ما يُفعِّل ويزيد في إنتاج الشركات وبالتالي في أرباحها ، وهو بيت القصيد ، فَمَثَلُ المواطن في مملكة العولمة كمثل طفل فاغرٍ فاه لا يملّ الرضاعةَ كما يشبهه (أريك فروم) في كتابه (الهروب من الحرية) .
وأما العولمة الاقتصادية فقد سخّرت الولايات المتحدة ، - حاضنةُ العدد الأكبر من الشركات الرأسمالية في العالم – سخرت لتسويقها وتحويلها واقعاً طموحاً على الأرض (كل) ثقلها السياسي وتأثيرَها المباشر على (كلٍّ) من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (هيئة الرقابة على البنك الدولي) ومنظمة التجارة العالمية ملبسةً مشروعها – بإعلامٍ فائقِ القدرات – مسوحاً حضاريةً وإنسانية جذبت بعض النخب الثقافية في أماكن مختلفة من العالم كصادق العظم الذي دعا في كتابه المشترك مع حسن الحنفي (ما العولمة) إلى مماشاةِ المشروعِ العولمي ككل بعد أن أفاض في التحذير منه متخيلاً أن المماشاة من شأنها أن تخلق وسطية ثقافية تلتقي عندها كل الثقافات المتباينة . غير أن نظرةً سريعة في ملف العولمة تزيّف هذا الإعلام وتكشف عن أن تلك المسوح إنما تخفي داخلها وحشاً ضارياً ليس إلا .
فمنطلقُ العولمة كفكرة ، ما كان أصلاً بدوافعَ إنسانيةٍ وحضارية ، وإنما لعوامل مختلفة راحت بعد الحرب العالمية الثانية تتبلور وتقف في وجه شركات رأس المال كازدياد الاهتمام البيئي لدى المجتمعات الغربية الذي دفع بها إلى الضغط باستمرار على حكوماتها لتتخذ إجراءات صارمة بحق الشركات والمصانع التي باتت سبباً رئيسياً في تلويث البيئة وتهديد الأمن الصحي في العواصم والمدن .
وارتفاعِ وتيرة المطالبة بزيادة الأجور والضمان الصحي الاجتماعي للعمال بتأثير من الفكر البروليتاري والاشتراكي الذي قادته النقابات العمالية . ودخولِ منتجات رخيصة متدنيةِ الأسعار إلى الأسواق التجارية لاقت رواجاً واسعاً كالمنتجات الصينية والكورية . الأمر الذي أدى مع الوقت إلى تقلص مستمر في أرباح الشركات واضطر بعضها إلى تغيير جهتها الصناعية أو حتى التوقف عن العمل .. فرأت على أثر ذلك كله في فكرة العولمة والزحف صوب الجنوب سيما بلدان العالم الثالث حيث تتوافر المواد الأولية والأيدي العاملة الرخيصة ، وسيلةً للخلاص من هذه الضغوط وطريقاً يفتح لها باب الثراء الفاحش .
وكما أن منطلقَ هذا المشروع العولمي لم يكن منطلقاً إنسانياً فإنك لا تجد في آليته العملية أيَّةَ مسحة إنسانية وإنما تجد هذه الآلية تعمل بحس وصولي ونفعي بحت . فالشروط التي اعتمدتها المنظمة التجارية – دينمو المشروع – لقبول دولةٍ ما في عضويتها ، تُلزِم الدولةَ العضوَ بعدم دعمها لمنتجاتها الوطنية وبتخفيض رسومها الجمركية على البضائع المستوردة وعلى أجور الشحن وأصل تكلفته ، ضمن ما يسمى بعمليات التبادل الحر ، ما يمنح هذه الشركات امتيازاتٍ وتسهيلاتٍ إضافيةً يصعب معها بل ويستحيل على الشركات الوطنية أن تنافسها ما سيضطرها إلى التوقف في نهاية المطاف وتسريح عمالها وإلقاء عبء إضافيٍّ على الدولة .
وستجد الدولة العضو نفسها مع الأيام وأمام التلويح بعصا العقوبات التي استنّتها منظمة التجارة بحق المتخلف عن سداد الديون ، ستجد نفسها مضطرة إما إلى فرض ضرائب وأسعار جديدة ، أو إلى تخفيض الإنفاق على المشاريع والخدمات الوطنية أو إليهما معاً كما هو الحاصل اليوم في لبنان (الذي وقع على معاهدة المنظمة التجارية في التسعينات) ، فها هي الضريبة تكاد تصاحب المواطن كما يصاحبه ظله بدءا من ورقة المختار وختماً بالتـ ، ف ، A، مروراً بما لا يخطر من هذه الضرائب على بال . وأما تخفيض الإنفاق على المشاريع فهو باد للعيان في حياة المواطنين كالتقنين الصارم في الكهرباء الذي يشهده لبنان بين الفينة والأخرى ، وإهمال النفايات التي باتت جبالاً في بعض كورنيشات النزهة والاستراحة ، وجمّلت بالألوان الزاهية وعطور المخلفات ، ودخان الحرائق طرق الكثير من مدن وبلدات جنوبنا الحبيب .
إن مشروع العولمة الاقتصادي لن يكون يوماً طوقَ نجاة وخشبةَ خلاصٍ للدول الفقيرة فضلاً عن أن يكون طريقاً إلى التطور والرخاء كما يمنّيها به إعلامُه ، فلغته ليست سوى لغة الحساب والأرقام . واهدافه ليست سوى الكسب وتضخيم الأرباح . وكل مؤسساته وشركات رأس المال فيه لا تمتلك قلباً ومشاعر وإنما تمتلك أنياباً ومخالب . مبدؤُها في التعاطي على الدوام إنتاجُ أجود سلعة ، بأكبر كمية وأرخص تكلفة .
هذه على سبيل المثال شركة الحذاء الرياضي المعروف (نايك) تدفع للاعب كرة السلة الشهير (مايكل جوردن) ملايين الدولارات لمجرد لبسه وترويجه لحذائها في حين أنها تدفع للولد الأندونيسي الذي تستخدمه لصناعة هذا الحذاء 12 سنتاً فقط في الساعة . وهي حين تجد كلفة العامل في بلد آخر غير أندونيسيا أرخصَ منه فيها فسوف لن تتردد في الرحيل عنها . وهكذا يتنقل المصنع من بلد لآخر تبعاً لبوصلة السنت والدولار لا للّفتة الإنسانية التي توهم الشركات الدول الفقيرة وشعوبها أنها توليها إياها .
ومن المفيد هنا أن نذكر أن مشروع العولمة قد أفضى وهو لا زال في بدايته إلى حصر 80 % من الموارد العالمية بأيدي خمس سكان العالم فقط وهم من أبناء الدول الصناعية علماً بأنهم ليسوا بمستوى معيشي واحد بطبيعة الحال، بل هناك منهم عاطلون عن العمل يبلغ عددهم في الولايات المتحدة على سبيل المثال زهاء عشرة ملايين عاطل .
وأن 358 شخصاً من كبار رجال الأعمال في العالم معظمهم من الدول الصناعية الكبرى وبالأخص الولايات المتحدة تساوي ثروتهم النقدية حجم المصادر التي يعيش منها ملياران وثلاث ماية مليون شخص من فقراء العالم أي أزيد من نصف سكانه .
وكما يقول برنار كاسين من (لومند دبلوماتيك) ! : (إن العولمة لا تقلص الفوارق الاجتماعية بل على العكس تضاعفها وتزيد منها سواء بين الأمم أو داخل كل حيز قومي على حده . ويعتبر أن الديمقراطية هي أحد ضحايا العولمة لما تفضي إليه من تمييز متنام بين المنتجين والمستهلكين . (وتدل معلومات صندوق الأمم المتحدة للتنمية على أن الاتجاه القائم حالياً هو تزايد فقر الدول النامية لانعدام التناسب بين الاستثمارات الخارجية والحاجات المحلية).
فالعولمة إذاً تسير بشعوب العالم نحو طبقية تتصاعد مع الأيام ، على أساس المال والمداخيل ، فوارقُها وشدةُ التباين فيها وليس في حسابها الشأن الإنساني بحال بل إنها لن تحقق نموذجها الإقتصادي الأمثل وكما تفيد الكاتبة سوسان جورج في كتابها (مؤامرة الغرب الكبرى " تقرير لوجانو ") إلا بالسعي إلى تخفيض عدد سكان العالم من ستة مليارات إلى أربعة لا تهمها الوسيلة التي تستخدم للوصول إلى ذلك بدءا من التعقيم وإطلاق حرية الإجهاض إلى إشعال الحروب والصراعات وزيادة الأوبئة والكوارث والأمراض الفتاكة.
إن لبنان واحد من بلدان العالم الثالث التي تواجه شبح العولمة المخيف وما يخفيه لها من مزيد من الهموم والمعاناة .. وليس أمام مجموعة الدول العربية والإسلامية إذا أرادت إبعاد هذا الشبح وشروره وتحصين وحماية نفسها واقتصادها من سطوته وأطماعه في المنطقة سوى أن تفيق من رقدتها وتستعيد الثقة بنفسها وتتسلح بالإرادة الصلبة وتعمل على حشد إمكاناتها وقدراتها : كل دولة دولة من جهة فلبناننا مثلاً يعود ضمن خطط مدروسة إلى أرضه الطيبة يبني في وديانها ووهداتها لماء السماء الكريمة سدوداً تحفظها من الضياع ويعمل على توسيع رقعتها الزراعية وتجديد وتكثير ناتجها الزراعي ، وتشجيع المشغل والمعمل الذي يستقبل الفائض منه ويحوله إلى صناعة وطنية (ويعنى بجماله الطبيعي ولوحاته الساحرة ومعالمه السياحية) ، ويحكم الرقابة على وزاراته ودوائره الحكومية ومؤسساته لوقف نزيف الهدر والتسرب فيها ضمن مشروع الإصلاح الإداري الذي صفق له يوماً كل لبنان ثم غرق فجأة في خيبة أمل مريرة ، ونفضِ غبار الاسترخاء والترهل عن تلك المؤسسات والدوائر وتحويلها إلى ورشات عمل دؤوب تبني اقتصاد الوطن وتنقذ الشعب والبلاد من كارثة لن تتلافاها المقابلات التلفزيونية والإعلامُ التلميعي في الجرائد والمجلات صديق المال والنفوذ السياسي في بلدنا الذي ملّه الشعب اللبناني ، المتطلع إلى رؤية عمل يتطور ، وواقع بائس يتغير لصالح كل أبنائه..
هذا كله في خط موازٍ لبناء المجتمع اللبناني تربوياً ووطنياً تتعاون على إنجازه كل المؤسسات بدأً من الأسرة وانتهاءً بالوزارات وفروعها مروراً بالمدارس والجامعات والأندية والجمعيات الأهلية .
ثم كافة الدول العربية والإسلامية كهيئة مجتمعة من جهة أخرى بأن تسارع إلى تعزيز القواسم المشتركة فيما بينها : الثقافية منها كاحترام الدول العربية للغتهم الأم في أقل تقدير ، التي نراها ، ويا للأسف مصونة في إذاعات الغرب الناطقة باللغة العربية ، ومُنْتَهَكَةً مهشمةً – تستدر دموع الخليل وسيبويه – في معظم إذاعاتنا العربية .
وإحضار ثروتها العقيدية السمحة وآداب شعوبها الاجتماعية ، وقيم تراثها الوطني إلى مراحل الدراسة على اختلافها ، وإلى كتاب الثقافة العام ، والمجلة المتداولة سيما مجلة الطفل والشباب ، وتحبيب المجتمع ككل بالقراءة ولذة الاطلاع ، الأمر الذي نجح به الغرب إلى حد كبير وكان سبباً هاماً من أسباب انتشار الوعي في مجتمعاتهم وبناء الديمقراطية فيها.
والاقتصادية بالانفتاح على عمقها الجغرافي بما في باطنها من كنوز ، وما يمتد على ترابها من خصوبة، والتنسيق فيما بينها في مجال زراعة الأرض وحسن استثمارها فيما يحقق التكامل والأمن الغذائي لديها وإحياء مشروع السوق المشتركة الذي بات مشروعاً مصيرياً يتفاقم الشعور بالحاجة إليه يوماً بعد يوم في عالم الشركات والكتل الاقتصادية التي لا ترحم ليقود حركة اقتصادية فاعلة أو يكون في الأقل سداً أمام ضغوط السوق العالمية المتزايدة .
وعجباً بنت الدول الأوروبية سوقها المشتركة بخطى ثابتة على ما بينها من تباين اللغة ودموية التاريخ وهشاشة الانتماء الديني ، ويبقى مشروع السوق العربية حبراً على ورق لم تخط الدول العربية على طريق إنجازه وتحويله إلى واقع خطوة واحدة على ما بينها من وحدة اللغة والعقيدة والتاريخ وتقارب العادات والآداب الشعبية .
والعسكرية : بإحياء معاهدة الدفاع المشترك ، وزرع روح المقاومة في نفوس الناشئة والشباب من خلال التثقيف الوطني والخدمة العسكرية . وإنه لذو مغزى وطني جميل ومعبّر – في هذا السياق – ما تعتمده دولة عربية شقيقة من زيٍّ موحدٍ بشكل البزة العسكرية لطلاب مدارسها في كل مراحلهم الدراسية : يكبر الطفل ويختزن في صدره إلى جانب العلم والمعرفة رجولة وروحاً وطنية .
وإذا كان سلوك هذا الطريق وعراً بسبب مواقف الحكام المتخاذلة فليس أمام شعوبنا وقواها الحيّة الذي يرتسم هذا الطريق هدفاً طموحاً أمام أبنائها ، سوى الضغط باتجاهه مهما واجهت من مصاعب وتضحيات فالأمر إنما يعنيها هي والمخاطر تحدق بها وبمستقبل أجيالها ، وإن التحدي الخطير الذي تواجهه الأمة في الحقيقة هي ليست أنياب العولمة وإرهاب شارون وترسانة إسرائيل العسكرية وحسب ، وإنما هي قدرة شعوبنا على سلوك هذا الطريق والمضي فيه قدماً متسلحاً بالإرادة الصلبة:
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
إن الإرادة تصنع المعجزات . وقد استطاع مغزل غاندي – بالأمس – أن يقهر شركات رأس المال البريطانية ويطرد الاستعمار البريطاني ذليلاً من بلاده .
فحري بأمة يعيش في نبضها محمد وعلي والحسين والسيد المسيح أن تقف شامخة فوق أرضها تتكسر على جدران صمودها مخططات الاحتلال والعولمة الأمريكية والإرهاب والنزق الصهيوني .
وتاريخها في مواطن التحدي مليء بالشواهد الشامخة على قوة إرادتها بدءاً من صدّ أمواج المغول وانتهاءً بسحق أبناء الجنوب الاحتلال وطرد جيشه ذليلاً من أرضهم .
إن أمتنا بمخزونها العقيدي الثري وتجارب نضالها الوطني المديد ليست جديرة بالوقوف صلبة أمام الهجمة الأمريكية الصهيونية الراهنة وحسب ، بل وأن تبدأ مشروع التغيير وبناء الذات وأولى مهماته العمل المسؤول الجاد في توحيد شرائح المجتمع وطاقاته تحت راية المصلحة العليا والهدف المشترك مهما تباينت وجهات النظر وأنماط العيش لدى أبنائه في مسائل الحياة على اختلافها بدءا من مجتمع البلدة والمدينة ، ومروراً بأبناء الوطن وفرقائه وهيئاته وقواه المختلفة ، وانتهاء بمجتمع الأمة . وإن فشل أي فريق أو حزب في ممارسة عملٍ أو نهجٍ توحيدي خلوق سيما داخل مدينة صغيرة كالنبطية مثلاً ليشكك حكماً في جدية هذا الحزب وقدرته على توحيد أمة بكاملها .
إن أمتنا حين تملأ العقيدةُ وآداب العقيدةِ قلبَها لجديرة بالتغيير وبناء الذات والنجاح في هذا الطريق ، بل وجديرة أيضاً أن تقدم هي للعالم مشروعَ العولمة .
المشروعَ الذي نجد معالمه الإنسانية والحضارية واضحة في دولة علي عليه السلام وحاكميته :عولمةً تقدس الحياة : من أحيى نفساً كأنما أحيى الناس جميعاً .
وتحترمُ الإنسان : الناس {إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق} .وتقرُ بالتنوع بين البشر: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل}. وتدعو إلى التعارف فيما بينهم وتبادلِ الخبرات {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وانتقاءِ الأصلح والأكثر نفعاً للناس على أساس: أن خير الناس من نفع الناس في حركة تكامل وتقدم دائم إلى الأمام .
وتدينُ إلغاءَ الآخر بل وإيذاءه (والانتقاص منه) وجرح كرامته ما دام يحترم آداب التعايش . يقول الإمام علي (ع) : من آذى ذمياً ( أي مواطناً على غير دين الدولة) فقد آذاني . وجعل الحوار لغة التفاهم وحل المشاكل بين الفرقاء لا القوة والعنجهية ووسائل القمع . { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم}.
عولمةً سياستُها العدل بين الناس يتساوى فيها الجميع أمام القانون لا سياسةُث الخداع والكيد واللعب على الألفاظ وسحق القيم فداء للمصالح الذاتية أو سياسيةُ المحاباةِ والكيل بمكيالين محلياً أو عالمياً: ترسانةُ إسرائيل النووية خارج الرقابة العالمية ، والمفاعلُ النووي العراقي يضربُ يوماً ، وتُهَدَّدُ إيران اليوم لمجرد الاشتباه بأنها تعد برنامجاً نووياً .
الحاكم أبٌ للرعية يواسيهم بنفسه ولا يتميز عليهم في مستوى العيش : (أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم خشونة العيش ومكاره الدهر) .
هو وجهازُ دولته خليةُ نحلٍ دؤوب تعمل في خدمة الشعب ورفع مستواه المعيشي :
إعلامها حرّ: عالمياً: لا يقلب الحقائق دون خجل فيجعل مقاومة المسحوق إرهاباً ومصاص الدماء بطل سلام .
وحرّ . محلياً . لا يضعفُ أمام المال أو سطوةِ السياسة . سعادةُ قلمه نصرةُ الحقيقة ورفعُ صوت المظلوم . من صميم مهماته إشاعة الإيمان والفضيلة والترويج للخلق الكريم في أوساط المجتمع والأمة .
عولمةً أرسى نواتَها عليٌّ عليه السلام قبل قرون طويلة .
ولئن استُشهد وهو يكافح على طريق إتمامها وإنجاحها لصالح شعبه وشعوب العالم القادمة .. فقد ترك تجربتها سطوراً مضيئةً تشجيهم عندما يقرأون صفحات التاريخ ، وتهزُّ وجدانهم بالأماني العذاب عندما ينظرون إلى المستقبل متسائلين – وسط عالم تُضنيه الحروب وإراقة الدماء وسطوة الحكام وقهر الأحرار ويشيع فيه الفقر والمجاعات والعلائق الاجتماعية المتدهورة .
هل لتجربة علي عليه السلام أن تعود وتحتضن الشعوب المقهورة بيديها الحانيتين وتمسح جراحها وتنهي آلامها ومآسيها الطويلة ؟!.
يجيبنا الكتاب الذي يعشقه علي ويسمر كلَّ ليلة مع دموعه على قراءة آياته : {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }.
فيبسطون على كل الأرض كما بشرت بذلك كل الأديان والمذاهب عبر سيول من الأحاديث والأخبار بقيادة عملاق التاريخ حفيد علي عليه السلام مشروع العولمة السعيد لصالح كل شعوب العالم بعد أن يمزق مشروع العولمة العاتي المزيف .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق