الاثنين، 4 مايو 2009

إن العولمة حين تنظر للعالم بصفته سوقاً ومصنعاً يتحرك بالآلية التي تنطوي على افتراض النمطية وحق البقاء للأقوى والأسرع والأجود، وعلى نحو يتجاوز كل الثوابت والمطلقات والغايات الإنسانية، إنما تعبر عن فلسفة مادية (داروينية ونيتشوية) على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري(10)، الأمر الذي لا يمكن معه لأي ذي عقل أن يقر بأنها تصلح لأن تكون الاتجاه الطبيعي والمنطقي في هذه الحياة، فضلاً عن الدعوة إلى التكيف معها واعتبارها قدراً لابد من الاستسلام لمعاييره وأحكامه.
إن القسر الذي تتبعه العولمة لإحلالها التصور الواحد إنما يمثل استكباراً مفسداً لا يمكنه أن يتيح لآليات التدافع والحوار والتداول أن تكون السيد في حسم جدل القِيَم والآيديولوجيات والبدائل، ونحن نعرف أن الاختلاف طبيعيه وحق مشروع يمكن أن يحقق التقدم الإنساني إذا ماتم على قاعدة التفرقة بين ما هو خير وما هو شرير، وبين ما هو صواب وما هو خطأ، {ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}(11).
بل نعتقد أساساً بأن حضور الله في الوعي هو أساس بناء الشخصية الإنسانية وأساس تحديد نوعية الحياة المطلوبة.
وبناء على ذلك، فالعولمة بما تنطوي عليه من جوهر مادي ومنظور أحادي لا تمثل إلا مأزقاً، بل وفخاً ـ كما وصفها (هانز بيتر مان وهارلدزشومان) في كتابهما (فخ العولمة)(12)، وهي كذلك على الرغم من تغليفها بأغلفة ملونة وكتابتها تحت عناوين جذابة، وما تبدو عليه من ديناميكية نشطة تسري في مختلف تضاعيف الحياة. إنه لا يسوغ لنا أن نقع بأية حال صرعى ومجذوبين في إطار مجالها المغناطيسي، خاصة إذا ما تسنى لنا إدراك ما تضج به من تناقض بين خطابها المعلن وممارسات إداراتها التي تقوم على الازدواجية وسياسات الانتقاء.
في النهاية نؤكد أن العولمة لا تمثل في حقيقتها إلاّ موقفاً أيديولوجياً تسيّره إرادة القوة من جهة، وطبيعة استجابة المستضعفين من جهة أخرى. وبعبارة ثانية، العولمة ليست أكثر من ديناميكية تقف وراءها قوة طاغية من صنع الإنسان الذي لا يملك أساساً مطلق التصرف في هذا الكون الذي نؤمن بخضوعه للّه الواحد الذي لابد أن يخضع له كل الناس.
وحيث أن اللّه تعالى خلق العباد مزودين بإمكانية الاستجابة لمقتضيات التحدي وفعل الاختيار والتغيير بالاتجاه الصحيح، فهل يمكن للإنسان المؤمن في إطار المجال العربي الإسلامي أن يبحث بشكل جاد في شروط مواجهة هذا المأزق الخطير؟.
هذا هو السؤال.

العولمة وازدواجية الخطاب
إذا صرفنا النظر عن فحص القيمة الذاتية للمقولات الأساسية للعولمة، وسلمنا بجدوى وعودها المتمثلة في تسهيل حركة السلع والخدمات وفتح جميع الأسواق، وإزالة القيود عن المعرفة والمعلومات وإطلاق حرية تداولها، والسماح لكل الناس بالتنقل والعمل في إطار من الحرية والانفتاح، بعيداً عن أسلاك الحدود وتحكم الحكومات؛ نقول إذا سلمنا بجدوى كل ذلك وتقبلناه، إلاّ أن متابعة سلوكيات المركز الذي يصدر عنه خطاب العولمة ستدهشه السياسات والممارسات المتبعة والإجراءات المعمول بها، بما تنطوي عليه من تناقض وانتقاء وازدواجية، نتلمس شواهدها في معظم الدوائر التي تطرح فيها العولمة وعودها المذكورة.
أ) السوق المفتوح : ليس من شك بأن قوى العولمة تعمل جاهدة على فتح أسواق العالم، سواء بالرضا أو بالضغط أو عبر اتفاقيات الجات أو غيرها على النحو الذي يتيح لمنتجاتها وسلعها سرعة الحركة والنفاذ. غير أن هذه القوى لا تتوقف في الوقت نفسه عن وضع القيود واصطناع العراقيل بوجه منتجات وسلع الدول الأخرى حين تتمتع هذه المنتجات والسلع بمزايا تنافسية، كما هو المتبع مع المنتجات الزراعية والمنسوجات والملابس ونحوها، حتى أن صادرات الدول النامية أخذت تتراجع نتيجة لذلك بنسبة %7، كما أن التدابير الحمائية التي تتخذها الدول الغنية تكلف الدول النامية ما يقرب من 700مليار دولار سنوياً ـ كما بينت ذلك (أوكسفام انترناشيونال).
وفي كل ذلك انتهاك واضح لحرية الأسواق.
وتقف الولايات المتحدة الأمريكية في مقدمة من ينقض هذه الحرية، فهي مافتئت ترفض تقديم التسهيلات للسلع التي تنتجها الدول النامية، وتربط دخولها إلى الأسواق الأمريكية بتوفر معايير خاصة تتعلق بشروط العمل أو البيئة أو الصحة، الأمر الذي ينزع أية إمكانية للمنافسة، ناهيك عن المعدل المرتفع للتعرفة الجمركية الذي تضعه في وجه السلع التي تسمح بدخولها.
وفي الكلمة التي أعدها كوفي عنان للجلسة الافتتاحية لقمة (سياتل) التي عُقدت في الفترة من 30 نوفمبر إلى 3ديسمبر1999 بحضور ممثلي 135 دولة عضواً في منظمة التجارة العالمية، ذكر أن معدل التعرفة الجمركية التي تضعها الدول الغنية على المنتجات المستوردة من الدول النامية هي أعلى أربعة أضعاف من تلك التي تأتي من الأقطار الصناعية الأخرى. كما أن هذه الدول لا تتوسل بالتعرفة الجمركية فحسب، بل تلجأ إلى نظام (الكوتا) (الحصص) لإبقاء واردات العالم الثالث بعيداً عن أسواقها، وهذا ما سبق أن أكده تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة الصادر عام (13)1992 حين أوضح بأن قواعد السوق كثير اً ما تنتهك لغير صالح الدول النامية، وذلك في الحالات التي يكون فيها لمنتجات هذه الدول ميزة تنافسية، وما وضع القيود الحمائية على البتروكيماويات المنتجة في دول الخليج إلاّ مثالٌ على ذلك.
وإن مما يدعو إلى الاستغراب في هذا السياق أن تُوجه تهمة (الإغراق) إلى الاقتصادات الناشئة إذا ما أنتجت شيئاً بأسعار مناسبة.
لقد فعلت ذلك بعض الدول الأوربية حين رفعت قضايا ضد مصر بزعم أن بضائعها في مجال المصنوعات القطنية والمنسوجات وبعض السلع الزراعية قد أغرقت الأسواق، في وقت يجأر فيه كبار المسؤولين المصريين بالشكوى من أن بلدهم تستورد ما قيمته 7 مليار دولار من تلك البلدان، في حين لا يبلغ ما تستورده هي من مصر أكثر من 40 مليون دولار؟.
ثم يتجلى واضحاً تناقض العولمة في السلوك المزدوج الذي تمارسه دول المركز حين تعمل على الصعيد التشريعي على ردع الخارجين على قواعد السوق وأحكامها، وتنسى نفسها حين تخرج هي على تلك القواعد في حالة ما إذا اقتضت مصالحها ذلك. فأمريكا التي تدعو إلى حرية التجارة والاستثمار تضرب في الوقت نفسه حصاراً على دول معينة وتمنع بموجب قانون (داماتو) على شركاتها وشركات غيرها التعامل مع ليبيا وإيران، ثم تدعو من جهة أخـرى إلى إنهاء مقاطعة إسرائيل اقتصادياً وبشكل نهائي بزعم أن ذلك يمثل انتهاكاً لأحكام منظمة التجارة العالمية.
وبصرف النظر مرة أخرى عن القيمة الذاتية لعقيدة السوق المفتوح وقواعده ومدى تناسب تلك العقيدة والقواعد مع الأوضاع والظروف الاقتصادية والاجتماعية للشعوب الأخرى، إلاّ أن مخالفات مراكز العولمة لتلك القواعد بات مؤكداً، حتى أن الولايات المتحدة لم تستثن دول الشمال من ذلك، فقد سبق أن منعت استيراد بعض المنتجات الغذائية من دول الاتحاد الأوربي كالنبيذ والجبن الفرنسي بدعوى عدم مطابقتها للمعايير الصحية، كما فرضت تعريفات جمركية باهضة على منتجات الاتحاد المذكور حين رفضت بلدانه استيراد اللحم البقري الأمريكي المهندس وراثياً، ناهيك عن الموقف من الصادرات اليابانية، إذ ظلت تفرض القيود والتدابير الحمائية ضدها عبر سن قوانين مكافحة الإغراق كوسيلة للحد من تدفق تلك الصادرات إلى أسواقها، خلافاً لمبدأ حرية التجارة وعقيدة السوق المفتوح.
ومن الغريب أن الولايات المتحدة في الوقت الذي تبتكر مختلف القيود والتدابير في وجه حرية التجارة، ترفض ما يؤمن به الفرنسيون من ضرورة استثناء السلع والمنتجات الثقافية من قواعد التجارة، مصرة على ما تدعو إليه من صرف النظر عن الطبيعة الخاصة للسلع واعتبارها واحدة في خضوعها لتلك القواعد.
إن أمريكا وغيرها من الدول الصناعية التي لم تحرر سلع الآخرين تماماً، وما أشرنا إليه من قيود وتدابير، هي بعض من تناقضات العولمة.
لقد كان الهدف المُعلن لمنظمة التجارة العالمية منذ إنشائها في العام 1994 هو رفع الطلب الفعال وزيادة الإنتاج وبذل الجهود الإيجابية لتأمين حصول البلدان النامية ـ لاسيما الأقل نمواً ـ على نصيب من نمو التجارة الدولية بما يتماشى واحتياجات تنميتها، كما أكدت على إزالة كل حواجز السوق التي تعترض صادراتها والنهوض بوسائل المعاونة الفنية لضمان تحقيق ذلك بشكل فعال، غير أن الواقع أتى بخلاف ذلك، حيث أن آثار العولمة التجارية أتت بفرص مؤكدة للعالم المتقدم، ولم تأت للعالم النامي إلا بمخاطر تتجلى في حدة التنافس وعدم التكافؤ وزيادة الفجوة بين المركز والأطراف، وهذا كله سيؤدي إلى فقدان العدالة والتوازن وبالتالي الإضراب والفوضى والكوارث للمناطق النامية في العالم كله(14).
ب) حرية انتقال العمالة وحركة الأشخاص : ما بشرت به العولمة من الحرية الكاملة للعمالة والأشخاص في التنقل لم يكن إلاّ وهماً تفضحه حقيقة أن المركز الغربي بات يشعر بالضيق نحو المهاجرين عمالاً كانوا أو متنقلين، فالحواجز التي توضع أمام هؤلاء آخذة في التزايد، مثلما تتزايد، وتتعقد القيود التي توضع أمام طالبي الهجرة أو اللجوء السياسي أو الإنساني.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وربما أستراليا، هي من أقل الدول الغربية تشدداً في هذا الخصوص، فلا يرجع ذلك إلى إيمانها بأطروحة حرية التنقل والعمل العالمي، بل لأن الـظروف الديموغرافية والاقتصادية قد تسمح في الأمد المنظور باستقبال بعض الخبرات والعمالة الأجنبية، حتى إذا ما انتفت المصلحة واقتضى الأمر غَلْقَ الباب فسيُغلق، كما هي الآن فاعلة على نحو جزئي من خلال سياسة الانتقاء والتمييز بين من يتم قبولهم للهجرة.
نحن لا ننكر على الدول الغربية حقها كدول أن تفعل ذلك، بل نغمطها الحق إن لم نعترف بكونها الأفضل بين دول العالم في هذا المجال، إلا أن من الحق القول بأن أبوابها ليست مفتوحة على مصراعيها، كما توحي بذلك القراءة الأولى لخطاب العولمة. فهاهي ظاهرة المهاجرين من العالم الثالث ـ بما فيهم المولودون في المهجر ـ باتت تؤرق دول الاتحاد الأوربي، وتشغل بال الكثيرين هناك لا للأسباب الموضوعية المتعلقة بسوق العمل أو مسألة التكييف وما ينتج عن ذلك من مشاكل فحسب، بل لأن الغرب بدأ يتضايق وهو يرى أبناء الشعوب التي كانت يوماً ما مستعمرة له يعودون للزحف نحو دياره حاملين معهم قيمهم وأديانهم ولغاتهم وألوانهم وعاداتهم التي أمست تصطدم مع المزاج العام وتثير بعض المخاوف(15) والهواجس والأوهام.
لهذا أخذت هذه الظاهرة المتصاعدة تُحدث ردود فعل سلبية على الصعيدين الشعبي والرسمي، حتى لدى بعض الجماعات التي تحمل أفكار يسارية أو إنسانية. وبالتالي فلا إدارة العولمة صادقة بخطاب الحدود المفتوحة، ولا منطق الطبائع والأشياء يسمح لها أن تكون كذلك.
قد تفتح الحدود لنوعيات معينة من أهل الجنوب، كأصحاب المال والسماسرة ورجال الأعمال والنخب والعناصر التي تلتقي مع أفكار الغرب ومشاريعه، فيما تضيق أمام المهاجرين أو الوافدين الشرعيين أو غير الشرعيين، حتى أن عدداً من دول الشمال أخذت تفكر بإعادة في النظر بقوانين الهجرة وحق اللجوء والإجراءات المعمول بها في هذا الخصوص على النحو الذي يستهدف تضييق الخناق على من يحاول الاستفادة من تلك القوانين والإجراءات.
لقد أخذت بعض هذه الدول تنسق فيما بينها حول هذه المسألة لمواجهة إشكالياتها بشكل جماعي، على الرغم من أن بعض التقارير التي تصدر في الغرب تقول بأن الوضع الديموغرافي للمجتمعات الغربية يعاني من ظواهر العزوف عن الزواج، وتصاعد نسبة الطلاق، وقلة المواليد الجدد، وارتفاع متوسط العمر، بما يعني حاجة هذه المجتمعات إلى ملايين من الناس لسد الخلل السكاني والاقتصادي الناجم عن ذلك.
ومع هذا، وحتى في الأحوال التي تستوعب فيها الدول الغربية بعض عناصر العمالة الوافدة، فإن وضع هذه العمالة يظل في كل الأحوال دون المستوى الذي تعيشه العمالة المحلية.
إن العولمة تثبت مرة أخرى أن واقعها لا يطابق خطابها.
ج) تداول المعلومات دون قيود : إذا نظرنا إلى التقدم الحاصل في مجال تقنيات الاتصال، كالأقمار الصناعية والبريد الإلكتروني والأنترنت والهاتف المحمول ونحوها، من إمكانات متطورة سهلت بشكل غير معقول عمليات نقل المعلومات ويسرت تداولها وتبادلها، فلاشك أن ذلك قد أحدث عولمة معرفية واتصالية أخذت تسري بين أبناء المعمورة متجاوزة بتلك الوسائل الحدود وكثيراً من القيود. لكن ذلك ينبغي أن لايدفعنا إلى التصديق كلياً بمقولة أن جميع، الأفكار والمعلومات أضحت متوفرة بين أيدي الجميع، وبات تداولها يتم بشكل تلقائي دون أية موانع أو قيود.
فالحقيقة هي غير ذلك. كذلك فالمعلومات والأفكار أنواع : منها ما هو مجاني يقدم دون مقابل بهدف تأكيد مصداقية المرسل واكتسابه احترام مستقبليه، وربما التأثير فيهم. وقد تكون هذه المعلومات علمية أو ثقافية أو سياسية أو غيرها، وقد تنطوي على مضامين أو اتجاهات فكرية أو عقيدية تنتمي إلى دوائر الثقافة والسياسة والدين والآيديولوجيا.
ولاشك أن هناك من يشجع على تسريب مثل هذه المعلومات ويعمل على إشاعتها بصفتها تمثل بالنسبة لمطلقيها عملاً من أعمال الدعوة أو التبشير أو الغزو الثقافي أو حتى الحوار مع الآخرين.
أما النوع الثاني فهو الذي يأخذ طابعاً تجارياً ولا يقدم إلى الآخرين إلاّ بمقابل مادي، حتى أضحت الدول الصناعية تتشدد فيـمـــا يســـمــى (حقوق الملكية الفكرية) وتحرص على حمايتها في إطار قيود صارمة تحول دون تسربها عبر نظام إجراءات الاختراع الذي أقر باتفاقية خاصة من خلال منظمة التجارة العالمية، وشمل مجالات حيوية كالدواء والزراعة والتقنية وغيرها، الأمر الذي لايدع مجالاً للشك في أن تحرير المعلومات والتداول الحر للمعرفة والتقنية ما هو إلا وهم من الأوهام.
أما بالنسبة للمعلومات ذات الطابع الاستراتيجي، سواء ما يتصل منها بالنواحي العسكرية أو السياسية أو الأمنية أو العلمية، فلاشك أنها مُحاطة بالسرية التامة، إذ ليس من المعقول أن يباحُ تداول مثل هذه المعلومات أو يسمح بتدفقها باتجاه الآخرين.
وليس حرمان طلبة أكثر الدول العربية والإسلامية من الالتحاق ببعض التخصصات الرفيعة والحساسة من قبل كثير من الجامعات الغربية، إلاّ أحد المؤشرات على منهجية الاحتكار المعرفي، والدليل على أكذوبة عولمة المعرفة الذي يفيد إباحة اكتسابها وتيسير تعلمها أو تداولها بين الجميع.
إن مبدأ تقسيم العمل الدولي الساري المفعول ينطوي على تكريس الفجوة المعرفية والتكنولوجية فيما بين العالم المتخلف والعالم المتقدم، وعلى النحو الذي يضع بلدان العالم المتخلف خارج دائرة التعامل مع التكنولوجيا المتقدمة والحساسة، بل إن الدول المتقدمة تحارب نقل أية تكنولوجيا متقدمة ورخيصة إلى تلك البلدان(16).
وفي كل الأحوال يجب أن ندرك أن مجمل المعارف والتقنيات المتطورة التي يتوصل إليها المركز تظل تحت السيطرة والتحكم، ولا يُطلق منها إلاّ ما يسمح هو بإطلاقه، وفي الوقت الذي يختاره، مع تحديد من يستحق المنح في مقابل من يحكم عليه بالحرمان.
وهذا واقع لم يعد خافياً على أحد.
في ضوء ذلك يجب أن تتواضع أحلامنا ـ نحن أبناء العالم المتأخر في هذا المضمار ـ بخصوص مايقال عن المعرفة المتاحة على الأقل في الحدود التي تنشط فيها استراتيجيات العولمة وتتحكم في جغرافياتها إدارات المركز.
د) الليبرالية والديموقراطية ونهاية الآيديولوجيا : يفيض خطاب العولمة بدعاوى الليبرالية والديموقراطية والتعددية وانحسار الآيديولوجيا لصالح العقلانية والنفعية والنزعة الإنسانية، في الوقت الذي تمزق العولمة بنفسها كل هذه العناوين حين تقدم نفسها كبديل قائم على احتكار صياغة الواقع وتحديد رؤى المستقبل.
ولاغرابة في هذا، فهي سليلة النزعة المركزية المتحكمة في الذهن والوجدان الغربيين والتي جسدتها من قبل الممارسات الاستعمارية التي شرعت ـ كما في حالة الاستعمارين الفرنسي والبرتغالي ـ قوانين (الاستيعاب)(Assimilation) التي كان يصنف بموجبها المواطنون المستعمرون إلى (متمدنين) و(غير متمدنين)، ويمثل الصنف الأول كل من تكلم لغة أوربية وظهر بمظهر أوروبي في ملبسه وسلوكه واتبع قانون الأحوال الشخصية الأوربي وترك اسمه القومي واختار اسماً أوروبياً(17).
إن العولمة الثقافية التي تعمل عبر مختلف الأدوات والقنوات باتجاه السيطرة على المدارك وإعادة تشكيل القيم والاتجاهات وتوجيه الأخيلة والسلوكيات، لا تنهض إلاّ على أنقاض خصوصيات الآخرين وعلى حساب هوياتهم الذاتية.
كما أن العولمة في بعدها الاقتصادي تحاول فرض اتجاهاتها على الدول النامية عبر حثها على التكيف وفقاً لمقتضيات الاقتصاد المعولم الذي يتطلب منها إعادة هيكلة اقتصادياتها والاندماج بالأسواق الرأسمالية العالمية، وبما يقتضيه ذلك من تحرير التجارة وأسعار الصرف وعلاقات العمل، وإحلال الخصخصة والسماح بدخول الشركات المتعددة الجنسية إلى السوق المحلية، ونحو ذلك، مما يمثل إلزاماً بآيديولوجية معينة أو اتجاه محدد.
من جهة أخرى فإن اقتصاد السوق، وهو يتعامل مع الفرد كسلعة تقبل المساومة، إنما يعكس حالة من التمايز يتكرس من خلالها واقع اللامساواة الذي يتنافى مع ما تنادي به الديموقراطية من إعلاء لقيمة الفرد في واقع الحياة.
وإذا كانت الفكرة الديموقراطية تفترض في مجال السلطة وضع آليات لمنع تجاوز سلطة على أخرى، فإن إطلاق قوى السوق والشركات الدولية دونما رقيب أو حسيب ليس عملاً ديموقراطياً(18) . ناهيك عن أن وضع المعايير والقواعد الدولية على دولة أو مجموعة محددة من الدول واستبعاد أخرى لمجرد فقرها أو تخلفها إنما يمثل إسقاطاً للفكرة في صعيدها الدولي.
إن العولمة، وهي تعمل على تسييد أنموذج أو خيار واحد لا يقبل بجواره أية نماذج أو خيارات أخرى، لا تعبر إلاّ عن آيديولوجية شمولية لاتقدم نفسها كمجود بديل، بل تعمل على اختراق الرغبة في البديل ـ كما يقول د. محمد عابد الجابري ـ وهي بهذا تشكل أخطر الآيديولوجيات التي لا يمكن في ظلها التصديق بمقولات الليبرالية والديموقراطية والتعددية بالمعاني التي توحي بحرية الإرادة واتساع أفق الاختيار.
هـ) دولة الحد الأدنى وفتح الحدود: إن تغيير الدور التقليدي للدولة وفسح المجال أمام تحكم القوى متعددة الجنسيات والوصول إلى ما يسمى ب (دولة الحد الأدنى)، هو بالفعل أحد مشاريع العولمة، ولكنه يتحرك باتجاه دول وشعوب معينة ولا ينطبق على جميع الدول والشعوب.
فالدولة في الغرب على الرغم من تركها مساحة واسعة يتحرك فيها الناس بحرية، ومنحها المجتمع الأهلي المبادرة في كثير من الاتجاهات، إلاّ أنها مع ذلك مازالت تمثل القاعدة الأساسية في إدارة الحياة العامة بمختلف قطاعاتها، فهي التي تتدخل في وضع حدود حماية المصلحة العامة، وتعمل على توفير البنية الأساسية ووضع الأطر القانونية للنشاط الاقتصادي، وضبط آليات السوق وتقديم الدعم والإعانات، وتحديد الأجور، وممارسة الرقابة، وتوفير الخدمات الاجتماعية، ونحو ذلك، مما لا يمكن للقطاع الخاص أن يتحمله، ناهيك عن اضطلاعها بشؤون الأمن والقوة ووضع الضوابط المتصلة بالحياة السياسية والحزبية.
إن الدولة في الغرب لم تختف في ظل العولمة ولم تضعف ولا يُراد لها ذلك، بل ستظل (الدينامو) الذي يحرك دورة المجتمع ويحدد نطاق العولمة ومداها المسموح به، ومن ثم لا معنى لتخيل زوال الدولة في الغرب في ظل العولمة.
لكن ثمة (سيناريو) للدولة الحديثة وضع ليتم تنفيذه في نطاق دول عالم الأطراف التي يُراد لها أن تضعف لصالح اشتراطات المركز.
فما يرسمه المركز للدولة في هذا العالم ينطبق عليه ما يسمى (الدولة الرخوة) (The Soft State)، ذلك الكيان الهش الذي لا يمتلك ـ كما يقول د. جلال أمين ـ (19) قدرة الممانعة إزاء ما تتطلبه أو تقتضيه ضرورات العولمة، ولكن دون أن تعني الرخاوة هنا أن لا تحتفظ هذه الدولة بأسباب القوة بالقدر الذي يسمح لها بالسيطرة على الداخل.
لهذا فمن الخطأ أن يتصور البعض أن إضعاف وتآكل الدولة القومية، فيه توفير للحريات العامة وإعلاء للإرادة الشعبية وتعظيم لدور المجتمع الأهلي، طالما أن نتيجة الإضعاف والتآكل لا تصب إلاّ في صالح قوى المركز واستراتيجياته.
وإنه لمن المفارقات في موضوع الدولة، أنه في الوقت الذي تحاول فيه العولمة سحب أجزاء من سيادة الدولة في العالم الثالث، تترك إسرائيل دولة قوية قومية لها كامل السيطرة على شؤون حياتها الداخلية، بل وتعفيها من كثير من الالتزامات الدولية وتدفع عنها العديد من الضغوط الخارجية.
إن ما يراد للدولة الإمبريالية ـ مركزية كانت أم فرعية ـ هو أن تكون قوية ولها كامل الإرادة والقدرة على مواجهة المخاطر والضغوط الخارجية، فيما يُراد لدول الأطراف أن تكون مكيفة ضمن استراتيجية العولمة وما تصنعه من اشتراطات وما تتطلبه من مقتضيات.
إذن فأي تناقض هذا وأية ازدواجية ؟
و) حقوق الإنسان : لاشك أن بعض ما تنطوي عليه مشاريع الحقوق والحريات من قيم ومعايير واتجاهات هو محل اختلاف، إلاّ أن مجمل ما قدمته الإعلانات والمواثيق الغربية والدولية الحديثة في هذا الشأن، يمثل أطروحات مقبولة تستحق التعظيم، بخاصة أن النصوص الإسلامية تؤكد الكثير منها، بل تحث عليها بصفتها واجبات يُلزم بها المكلفون.
وإذا كان ثمة تساؤل لابد من طرحه هنا، فهو: كيف يتم التعامل مع هذه المسألة في ظل العولمة ؟ ومتى تثار موضوعاتها؟ وما المعايير التي تحكم ذلك التعاطي وتلك الإثارة؟
إن البحث عن إجابة لهذه الأسئلة لا يكلفنا كبير عناء مادمنا نلاحظ كيف أن قوى العولمة تتعامل مع قضية الحقوق والحريات بشكل انتقائي تزدوج خلاله المعايير، أو بتجزئتها فتثار حقوق من نوع ويُسكت عن حقوق من نوع آخر، أو أن تنتهك الحقوق والحريات بالأساس من قبل إدارة العولمة نفسها بتبرير أو بدونه!
فبالنسبة للسلوك الانتقائي نجد أن الدول الكبرى لا تثير إشكالية الحقوق والحريات العامة إلاّ ساعة التقاء ذلك مع مصالحها وتناسبه مع أغراضها، حتى أن بعضها لا تتردد عن إصدار تقارير دورية عن انتهاكات حقوق الإنسان وتحرك من أجل ذلك بعض عناصرها، سواء في المنظمات الأهلية أو في الأوساط الإعلامية حين يكون الطرف المنتهك خصماً آيديولوجيا أو سياسياً، بينما تسكت في أكثر الأحيان عن الانتهاكات التي تجري في دوائر الدول المرتبطة بها، بل قد تغطي عليها أحياناً، خلا الحالات التي تحتاج فيها تلكم الدول التابعة إلى تنبيه أو توبيخ أو تحذير تقتضيه الحسابات الخاصة للدول المتبوعة.
والغريب أن دول المركز تهتم بحقوق الإنسان حتى ولو تعلق ذلك بفرد واحد أو بجماعة قليلة إذا ما كان ذلك متفقاً مع مصالحها ومتناسباً مع أغراضها، فيما لا تهتم بالموضوع أصلاً أو تغض عنه الطرف حتى وإن تعلق بشعب بأكمله أو بجماعة تُعد بالملايين مادام ذلك لا يتصل باهتماماتها أو مقتضاياتها الخاصة. وهذه الازدواجية مازال مثالها واضحاً في تباين موقف الغرب من ألبان كوسوفو من جهة والشيشان في شيشينا من جهة أخرى، والأمثلة في هذا كثيرة.
حتى العولمة القضائية التي قيل بأنها ستطارد وتحاكم مرتكبي جرائم التعذيب والإبادة بحق الإنسانية، هي الأخرى ليست بعيدة عن هذا المنهج الانتقائي. فالمحمكة الجنائية الدولية الدائمة لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية والإبادة، لا نحسب أنها في وارد متابعة كل من ستنطبق عليهم هذه التهم، ربما ستُحرك الدعاوى ضد بعض المجرمين من يوغسلافيا ورواندا ويترك أو يؤجل في أحسن الأحوال طغاة ومجرمون لعلهم أشد سوءاً وأكثر انتهاكاً للحرمات الإنسانية، وذلك لأسباب تتعلق باستراتيجيات دول المركز أو حساباتها الخاصة.
ناهيك عن أن الدعوات لتنظيف العالم من السلاح النووي تنطوي على ازدواجية صارخة، فهي في الوقت الذي توجه إلى دول بعينها وتحديداً دول العالم العربي الإسلامي، تستثني أو يسكت عن توجيهها إلى دول أخرى كإسرائيل مثلاً.
من جهة أخرى فإن المطالبة بمراعاة حقوق الإنسان لا يخضع لمبدأ وحدة الحقوق، بل تُقدم بشكل مجزء، ولعلنا نتبين ذلك واضحاً في حالة التركيز على الحقوق السياسية دون الحقوق الاقتصادية التي هي الأخرى معرضة للانتهاك علانية أو على نحو خفي.
والأسوأ من كل ذلك هو انتهاك مراكز العولمة لحقوق الإنسان بأكثر من شكل، فإذا كانت الشرعية الحقوقية الدولية تدين انتهاك خصوصيات الفرد حتى ولو على مستوى فض رسالة شخصية دون علم صاحبها، فمن سيدين أجهزة التنصت وجيوش العاملين في مراكز الاستخبارات الغربية وعيون أقمارها الصناعية التي تنتهك يومياً كل الأسرار.
فهاهي وكالة التجسس الأمريكية (NSA) تُقيم لها أكبر محطة في بريطانيا تعمل على رصد جميع المراسلات والاتصالات التي تجري بين العالم العربي وأوربا، سواء ما كان يتم منها عبر البريد أو التلكس أو الهاتف أو الفاكس أو الإنترنت(20).
أليس الأجدر بهذه الأجهزة أن تساعد مثلاً على استرداد أموال الشعوب الفقيرة التي سرقها الطغاة واللصوص الكبار وأودعوها في بنوك الغرب بكامل الحرية والحماية والسرية؟ حتى حين تنشر صحيفة أسماء بعض هؤلاء وأرقام مايكدسونه من مليارات أو ملايين لا تحرك العولمة الاستخبارية أو القضائية أو المالية أو السياسية ساكناً، وإن ألحّت على تحريك هذا الموضوع الشعوب المسروقة نفسها.
إن المفارقة ستظل واضحة في طيات أطروحة العولمة نفسها، وهي توجه خطابها بالطرق والوسائل التي تحول دون ممارسة الآخرين حرياتهم السياسية واختياراتهم الثقافية والاقتصادية، فما تقوم به العولمة من ضغوط وتهديدات وما تلجأ إليه من عنف رمزي أو مادي بهدف فرض قيمها واتجاهاتها، كاف بحد ذاته لأن يشكل حالة اعتداء كبرى على حق الإنسان في التفكير والاختيار والمغايرة والاختلاف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق